الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلْكَافِرُونَ }

اعلم أن قوله تعالى: فيه فوائد: أحدهما: أنه عليه السلام كان مأموراً بالرفق واللين في جميع الأمور كما قال: { قل }فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فضاً غليظ القلب لانفضوا من حولك } [آل عمران: 159]بالمؤمنين رءوف رحيم } [التوبة: 128]وَمَا أَرْسَلْنَـٰكَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَـٰلَمِينَ } [الأنبياء: 107] ثم كان مأموراً بأن يدعو إلى الله بالوجه الأحسن:وجادلهم بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ } [النحل: 125] ولما كان الأمر كذلك، ثم إنه خاطبهم بيا أيها الكافرون فكانوا يقولون: كيف يليق هذا التغليظ بذلك الرفق فأجاب بأني مأمور بهذا الكلام لا أني ذكرته من عند نفسي فكان المراد من قوله: قل تقرير هذا المعنى وثانيها: أنه لما قيل له:وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ ٱلأَقْرَبِينَ } [الشعراء: 214] وهو كان يحب أقرباءه لقوله:قُل لاَّ أَسْـئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ ٱلْمَوَدَّةَ فِى ٱلْقُرْبَىٰ } [الشورى: 23] فكانت القرابة ووحدة النسب كالمانع من إظهار الخشونة فأمر بالتصريح بتلك الخشونة والتغليظ فقيل له: { قُلْ } ، وثالثها: أنه لما قيل له:يَـٰأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } [المائدة: 67] فأمر بتبليغ كل ما أنزل عليه فلما قال الله تعالى له: { قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلْكَـٰفِرُونَ } نقل هو عليه السلام هذا الكلام بجملته كأنه قال: إنه تعالى أمرني بتبليغ كل ما أنزل علي والذي أنزل علي هو مجموع قوله: { قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلْكَـٰفِرُونَ } فأنا أيضاً أبلغه إلى الخلق هكذا ورابعها: أن الكفار كانوا مقرين بوجود الصانع، وأنه هو الذي خلقهم ورزقهم، على ما قال تعالى:وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ } [لقمان: 25] والعبد يتحمل من مولاه مالا يتحمله من غيره، فلو أنه عليه السلام قال ابتداء: { ياأيها ٱلْكَـٰفِرُونَ } لجوزوا أن يكون هذا كلام محمد، فلعلهم ما كانوا يتحملونه منه وكانوا يؤذونه. أما لما سمعوا قوله: { قُلْ } علموا أنه ينقل هذا التغليظ عن خالق السموات والأرض، فكانوا يتحملونه ولا يعظم تأذيهم به وخامسها: أن قوله: { قُلْ } يوجب كونه رسولاً من عند الله، فكلما قيل له: { قُلْ } كان ذلك كالمنشور الجديد في ثبوت رسالته، وذلك يقتضي المبالغة في تعظيم الرسول، فإن الملك إذا فوض مملكته إلى بعض عبيده، فإذا كان يكتب له كل شهر وسنة منشوراً جديداً دل ذلك على غاية اعتنائه بشأنه، وأنه على عزم أن يزيده كل يوم تعظيماً وتشريفاً وسادسها: أن الكفار لما قالوا: نعبد إلهك سنة، وتبعد آلتنا سنة، فكأنه عليه السلام قال: استأمرت إليه فيه. فقال: { قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلْكَـٰفِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } وسابعها: الكفار قالوا فيه السوء، فهو تعالى زجرهم عن ذلك، وأجابهم وقال:إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ ٱلأَبْتَرُ } [الكوثر: 3] وكأنه تعالى قال: حين ذكروك بسوء، فأنا كنت المجيب بنفسي، فحين ذكروني بالسوء وأثبتوا لي الشركاء، فكن أنت المجيب: { قُلْ يٰ أَيُّهَا ٱلْكَـٰفِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تعبدون } وثامنها: أنهم سموك أبتر، فإن شئت أن تستوفي منهم القصاص، فاذكرهم بوصف ذم بحيث تكون صادقاً فيه: { قُلْ يٰ أَيُّهَاٱلْكَـٰفِرُونَ } لكن الفرق أنهم عابوك بما ليس من فعلك وأنت تعيبهم بما هو فعلهم وتاسعها: أن بتقدير أن تقول: يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدونه، والكفار يقولون: هذا كلام ربك أم كلامك، فإن كان كلام ربك فربك يقول: أنا لا أعبد هذه الأصنام، ونحن لا نطلب هذه العبادة من ربك إنما نطلبها منك، وإن كان هذا كلامك فأنت قلت من عند نفسك إني لا أعبد هذه الأصنام، فلم قلت: إن ربك هو الذي أمرك بذلك، أما لما قال: قل، سقط هذا الاعتراض لأن قوله: { قُلْ } يدل على أنه مأمور من عند الله تعالى بأن لا يعبدها ويتبرأ منها وعاشرها: أنه لو أنزل قوله: { يا أيها الكافرون } لكان يقرؤها عليهم لا محالة، لأنه لا يجوز أن يخون في الوحي إلا أنه لما قال: { قُلْ } كان ذلك كالتأكيد في إيجاب تبليغ هذا الوحي إليهم، والتأكيد يدل على أن ذلك الأمر أمر عظيم.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8