الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ هَلْ أَتَىٰ عَلَى ٱلإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ ٱلدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً }

قوله: { هَلْ أَتَىٰ }: في " هل " هذه وجهان، أحدُهما: أنَّها على بابِها من الاستفهامِ المَحْضِ، أي: هو مِمَّنْ يُسْأَلُ عنه لغرابتِه: أأتى عليه حينٌ من الدهرِ لَم يكنْ كذا، فإنه يكونُ الجوابُ: أتى عليه ذلك، وهو بالحالِ المذكورةِ، كذا قاله الشيخ، وهو مدخولٌ كما ستعرِفُه قريباً. وقال مكي في تقرير كونها على بابِها من الاستفهام. " والأحسنُ أَنْ تكونَ على بابِها للاستفهام الذي معناه التقريرُ، وإنما هو تقرير لمَنْ أنكر البعثَ، فلا بُدَّ أَنْ يقولَ: نعم قد مضى دهر طويل لا إنسانَ فيه. فيقال له: مَنْ أَحْدَثَه بعد أن لم يكُنْ وكَوَّنه بعد عَدَمِه كيف يمتنع عليه بَعْثُه وإحياؤه بعد مَوْتِه؟ وهو معنى قولِه:وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ ٱلنَّشْأَةَ ٱلأُولَىٰ فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ } [الواقعة: 62]، أي: فهلاَّ تَذَكَّرون فتعلَمون أنَّ مَنْ أَنْشأ شيئاً ـ بعد أن لم يكُنْ ـ قادرٌ على إعادتِه بعد مَوْتِه و عَدَمِه " انتهى. فقد جَعَلها لاستفهامِ التقريرِ لا للاستفهامِ المَحْضِ، وهذا هو الذي يجبُ أَنْ يكونَ؛ لأنَّ الاستفهامَ لا يَرِدُ مِنَ الباري تعالى لاَّ على هذا النحوِ وما أشبهه. والثاني: أنها بمعنى " قد " قال الزمخشري: " هل بمعنى " قد " في الاستفهام خاصة. والأصل: أهل بدليلِ قولِه:
4430ـ سائِلْ فوارسَ يَرْبوعٍ بشَدَّتِنا   أهَلْ رَأَوْنا بوادي القُفِّ ذي الأَكَمِ
فالمعنى: أقد أتى، على التقريرِ والتقريبِ جميعاً، أي: أتى على الإِنسان قبلَ زمانٍ قريبٍ حينٌ من الدهرِ لم يكنْ فيه شيئاً مذكوراً، أي: كان شيئاً مَنْسِيَّاً غير مذكور " انتهى. فقولُه: " على التقريرِ " يعني المفهومَ من الاستفهامِ، وهو الذي فهم مكيٌّ مِنْ نفسِ " هل ". وقوله: " والتقريب " يعني المفهومَ مِنْ " قد " التي وقع مَوْقِعَها " هل ". ومعنى قولِه " في الاستفهام خاصةً " أنَّ " هل " لا تكونُ بمعنى " قد " إلاَّ ومعها استفهامٌ/ لفظاً كالبيتِ المتقدِّم، أو تقديراً كالآية الكريمةِ. فلو قلتَ: " هل جاء زيدٌ " تعني: قد جاء، من غيرِ استفهامٍ لم يَجُزْ، وغيرُه جَعَلَها بمعنى " قد " من غيرِ هذا القيدِ. وبعضُهم لا يُجيزه البتةَ، ويَتَأّوَّل البيتَ: على أنَّ مِمَّا جُمِعَ فيه بين حرفَيْ معنىً للتأكيدِ، وحَسَّن ذلك اختلافُ لفظِهما كقولِ الشاعِرِ:
4331ـ فأَصْبَحْنَ لا يَسْأَلنْنَي عَنْ بِما به   .......................
فالباءُ بمعنى " عن " ، وهي مؤكِّدةٌ لها، وإذا كانوا قد أَكَّدوا مع اتفاقِ اللفظِ كقولِه:
4432ـ فَلا واللَّهِ لا يُلْفَى لِما بي   ولا لِلِما بهمْ أبداً دَواءُ
فَلأَنْ يُؤَكِّدوا مع اختلافهِ أَحْرى. ولم يَذْكُرِ الزمخشريُّ غيرَ كونِها بمعنى " قد " ، وبقي على الزمخشريِّ قيدٌ آخر: وهو أَنْ يقولَ: في الجملِ الفعليةِ؛ لأنَّه متى دخلَتْ " هل " على جملةٍ اسميةٍ استحالَ كونُها بمعنى " قد " لأنَّ " قد " مختصَّةٌ بالأفعالِ. وعندي أنَّ هذا لا يَرِدُ؛ لأنَّه تقرَّر أنَّ " قد " لا تباشِرُ الأسماءَ.

قوله: { لَمْ يَكُن } في هذه الجملة وجهان، أحدُهما: أنَّها في موضعِ نصبٍ على الحالِ من " الإِنسان " ، أي: هل أتى عليه حينٌ في هذه الحالةِ. والثاني: أنها في موضعِ رفع نعتاً لـ " حينٌ " بعد نعتٍ. وعلى هذا فالعائدُ تقديرُه: حينٌ لم يكُنْ فيه شيئا مذكوراً، والأول أظهرُ لفظاً ومعنىً.