الرئيسية - التفاسير


* تفسير أضواء البيان في تفسير القرآن/ الشنقيطي (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ إِذَا جَآءَكَ ٱلْمُنَافِقُونَ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ }

قال الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في مذكرة الدراسة: الخطاب للنَّبي صلى الله عليه وسلم، والمنافقون جمع منافق وهو من يظهر الإيمان ويسر الكفر.

قالوا: نشهد إنك لرسول الله، أي قالوا ذلك نفاقاً وخوفاً، ولم يقولوه خالصاً من قلوبهم. ولذا قال الله: { وَٱللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُون } ، وإنما شهد عليهم بالكذب مع أن ظاهر قولهم حق لأن بواطنهم تكذب ظواهرهم لأن الأعمال بالنيات، وإنما كسر همزة إن في المواضع الثلاثة، لأنها بعد فعل معلق باللام، ولولا ذلك لفتحت، لأنها في محل المصدر.

ولأبي حيان قول حسن في ذلك إذ قال: إن قولهم: نشهد يجري مجرى اليمين. ولذلك تلقى بما يتلقى به القسم، وكذا فعل اليقين. والعلم يجري مجرى القسم بقوله: { إِنََّ لَرَسَولُ اللَّهِ } أعني بقصد التوكيد بإن واللام، ثم قال: وأصل الشهادة أن يواطئ اللسان القلب، وهذا بالنطق وذلك بالاعتقاد فأكذبهم الله: وفضحهم بقوله: { وَٱللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُون }.

أي لم تواطئ قلوبهم ألسنتهم على تصديقك، واعتقادهم أنك غير رسول، فهم كاذبون عند الله وعند من عرف حالهم، أو كاذبون عند أنفسهم، إذ أنهم يعتقدون أن قولهم: { إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ } كذب.

وجاء قوله تعالى: { وَٱللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ } بين شهادتهم وتكذيبهم إيذاناً بأن الأمر كما قالوا على حد قوله تعالى:وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ } [الفتح: 28 - 29].

تنبيه في هذه الآية مبحث بلاغي في تقسيم الكلام إلى خبر وإنشاء فقولوا: الخبر ما احتمل الصدق والكذب لذاته، فذهب الجمهور إلى أنه ينحصر فيهما بلا واسطة، والمخبر إما صادق وإما كاذب. وهذا بناء على مطابقة الخبر للواقع أو عدم مطابقته ولا علاقة له بالاعتقاد.

قال السعد في التلخيص، وقال بعض الناس: صدق الخبر وكذبه مطابقته لاعتقاد المخبر لا للواقع. واستدلوا لذلك بأن عدم مطابقته للواقع يكون من قبيل الخطأ لا من قبيل الكذب.

ولحديث عائشة رضي الله عنهما عن ابن عمر: " ما كذب ولكنه وهم " ، وهذا مذهب الجاحظ وهو صدق الخبر مطابقته للواقع مع اعتقاد المخبر مستدلاً بالآية { وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } مع قولهم: { إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ }. فكذبهم الله مع أن خبرهم مطابق للواقع، لكنهم لم يعتقدوا ما قالوا فكذبهم الله لذلك.

ومقتضى مذهب الجاحظ القول بوجود واسطة بين الصدق والكذب، وهي عدم اعتقاد المخبر لما أخبر به، ولو طابق الواقع، ولكن ما قدمناه من كلام أبي حيان يرد هذا المذهب ويبطل استدلال الجاحظ ومن وافقه بالآية، لأن تكذيب الله إياهم منصب على قوم قالوا نشهد، والشهادة أخص من الخبر، ولأنهم ضمنوا شهادتهم التأكيد المشعر بالقسم والموحي بمطابقة القول لما في القلب ولا سيّما في هذا المقام، وهو مقام الإيمان والتصديق، فأكذبهم الله في كون إخبارهم بصورة الشهادة والحال أنهم لم يأتوا بالشهادة على وجهها وهو عدم مطابقتها لاعتقادهم.

السابقالتالي
2