الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلاۤ أَخَّرْتَنِيۤ إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ }

هذا إبطال ونقض لكيد المنافقين حين قالوالا تنفقوا على من عند رسول الله } المنافقون 7، وهو يعمّ الإِنفاق على الملتفين حول رسول الله صلى الله عليه وسلم والإِنفاقَ على غيرهم فكانت الجملة كالتذييل. وفعل { أنفقوا } مستعمل في الطلب الشامل للواجب والمستحب فإن مدلول صيغة افعل، مطلق الطلب، وهو القدر المشترك بين الوجوب والندب. وفي قوله { من ما رزقناكم } إشارة إلى أن الإنفاق المأمور به شكر لله على ما رزق المنفِق فإن الشكر صرف العبد ما أنعم الله به عليه فيما خُلق لأجله، ويعرف ذلك من تلقاء الشريعة. و { مِن } للتبعيض، أي بعض ما رزقناكم، وهذه توسعة من الله على عباده، وهذا البعض منه هو معيّن المقدار مثل مقادير الزكاة وصدقة الفطر. ومنه ما يتعين بسدّ الخلة الواجب سدّها مع طاقة المنفق كنفقات الحج والجهاد والرباط ونفقات العيال الواجبة ونفقات مصالح المسلمين الضرورية والحاجيّة، ومنه ما يتعين بتعين سببه كالكفارات، ومنه ما وكل للناس تعيينه مما ليس بواجب من الإِنفاق فذلك موكول إلى رغبات الناس في نوال الثواب فإن ذلك باب عظيم من القربى من رضى الله تعالى، وفي الحديث " الصدقة تُطفىء الخطايا كما يُطفىء الماءُ النارَ " وقد ذكَّر الله المؤمنين بما في الإِنفاق من الخير بأن عليهم أن يكثروا منه ما داموا مقتدرين قبل الفوت، أي قبل تعذر الإِنفاق والإِتيان بالأعمال الصالحة، وذلك حين يحسّ المرء بحالة تؤذن بقرب الموت ويُغْلَب على قواه فيسأل الله أن يؤخر مَوته ويشفيه ليأتي بكثير مما فرط فيه من الحسنات طمعاً أن يستجاب له فإن كان في أجله تأخير فلعل الله أن يستجيب له، فإن لم يكن في الأجل تأخير أو لم يقدر الله له الاستجابة فإنه خير كثير. و { لولا } حرف تحضيض، والتحضيض الطلب الحثيث المضطر إليه، ويستعمل { لولا } للعرض أيضاً والتوبيخ والتنديم والتمني على المجاز أو الكناية، وتقدم عند قوله تعالىفلولا كانت قرية آمنت } في سورة يونس 98. وحق الفعل بعدها أن يكون مضارعاً وإنما جاء ماضياً هنا لتأكيد إيقاعه في دعاء الداعي حتى كأنه قد تحقق مثلأتى أمر الله } النحل 1 وقرينة ذلك ترتيب فعلَيْ { فأصدق وأكُن من الصالحين } عليه. والمعنى فيسأل المؤمن ربه سؤالاً حثيثاً أن يحقق تأخير موته إلى أجل يستدرك فيه ما اشتغل عنه من إنفاق وعمل صالح. ووصفُ الأجلِ بـ { قريب } تمهيد لتحصيل الاستجابة بناء على متعارف الناس أن الأمر اليسير أرجى لأن يستجيبه المسؤول فيغلب ذلك على شعورهم حين يسألون الله تنساق بذلك نفوسهم إلى ما عرفوا، ولذلك ورد في الحديث " لا يقولَنَّ أحدكم اللهم اغفر لي إن شئت وليعزم المسألةَ فإنه لا مُكْره له "

السابقالتالي
2