الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ ٱلنَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا كَذٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ }

فيه مسألتان: الأولى: قوله تعالى { وَٱعْتَصِمُواْ } العِصمة المَنْعة ومنه يقال للبذْرَقَة: عِصْمةٌ. والبذرقة: الخَفَارَةُ للقافِلة، وذلك بأن يرسل معها من يحميها ممن يؤذيها. قال ٱبن خالوية: البذرقة ليست بعربية وإنما هي كلمة فارسية عرّبتها العرب يقال: بعث السلطان بذرقة مع القافلة. والحَبْل لفظ مُشتَرك، وأصله في اللغة السَببُ الذي يوصل بِه إلى البغية والحاجة. والحبل: حبل العاتق. والحبل: مستطيل من الرمل، ومنه الحديث: والله ما تركتُ من حبل إلا وقفتُ عليه، فهل لي مِن حَجٍّ والحبل الرسَنُ. والحبل العهد قال الأعشى:
وإذا تُجَوِّزُها حِبالُ قَبيلةٍ   أخذتْ من الأخرى إليك حِبالِها
يريد الأمان. والحبل الداهية قال كثير:
فلا تعجَلي يا عَزُّ أن تتَفَهَّمِي   بُنْصح أتى الواشُون أم بِحُبُولِ
والحِبَالة: حِبالة الصّائد. وكلها ليس مرادا في الآية إلا الذي بمعنى العهد عن آبن عباس. وقال آبن مسعود: حبل الله القرآن. ورواه على وأبو سعيد الحدري عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن مجاهد وقتادة مثل ذلك. وأبو معاوية عن الهجري عن أبي الأحوص عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن هذا القرآن هو حبل الله " وروى تَقي بن مخلّد حُدّثنا يحيى بن عبد الحميد حدّثنا هشيم عن العوّام بن حوشب عن الشعبي عن عبد الله بن مسعود { وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ } قال: الجماعة روي عنه و عن غيره من وجوه، والمعنى كله متقارب مُتَدَاخِل فإن الله تعالى يأمر بالألفة وينهى عن الفُرْقة فإن الفرقة هلكة والجماعة نجاة. ورحم الله ٱبن المبارك حيث قال:
إن الجماعة حَبْلُ الله فآعتَصِموا   منه بِعُروته الوُثْقى لمن دَانا
الثانية: قوله تعالى: { وَلاَ تَفَرَّقُواْ } يعني في دينكم كما ٱفترقت اليهود والنصارى في أديانهم عن ٱبن مسعود وغيره. ويجوز أن يكون معناه ولا تفرقوا متابعين للهوى والأغراض المختلفة، وكونوا في دِين الله إخوانا فيكون ذلك منعا لهم عن التقاطع والتدابر ودل عليه ما بعده وهو قوله تعالى { وَٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً }. وليس فيه دليل على تحريم الاختلاف في الفروع: فإن ذلك ليس ٱختلافا إذ الآختلاف ما يتعذر معه الائتلاف والجمع، وأما حكم مسائل الاجتهاد فإن الاختلاف فيها بسبب آستخراج الفرائض ودقائق معاني الشرع وما زالت الصحابة يختلفون في أحكام الحوادث، وهم مع ذلك متآلفون. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اختلاف أمّتي رحمة " وإنما منع الله اختلافا هو سبب الفساد. روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فِرقة أو ٱثنتين وسبعين فِرقة والنصارى مثل ذلك وتفترق أمَّتي على ثلاث وسبعين فِرقة "

السابقالتالي
2 3 4 5