الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلأَبْصَٰرُ وَهُوَ يُدْرِكُ ٱلأَبْصَٰرَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلْخَبِيرُ }

في هذه الآية مسائل: المسألة الأولى: احتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى تجوز رؤيته والمؤمنين يرونه يوم القيامة من وجوه: الأول: في تقرير هذا المطلوب أن نقول: هذه الآية تدل على أنه تعالى تجوز رؤيته. وإذا ثبت هذا وجب القطع بأن المؤمنين يرونه يوم القيامة. أما المقام الأول: فتقريره: أنه تعالى تمدح بقوله: { لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلأَبْصَـٰرُ } وذلك مما يساعد الخصم عليه، وعليه بنوا استدلالهم في إثبات مذهبهم في نفي الرؤية. وإذا ثبت هذا فنقول: لو لم يكن تعالى جائز الرؤية لما حصل التمدح بقوله: { لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلأَبْصَـٰرُ } ألا ترى أن المعدوم لا تصح رؤيته. والعلوم والقدرة والإرادة والروائح والطعوم لا يصح رؤية شيء منها، ولا مدح لشيء منها في كونها بحيث لا تصح رؤيتها، فثبت أن قوله: { لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلأَبْصَـٰرُ } يفيد المدح، وثبت أن ذلك إنما يفيد المدح لو كان صحيح الرؤية، وهذا يدل على أن قوله تعالى: { لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلأَبْصَـٰرُ } يفيد كونه تعالى جائز الرؤية، وتمام التحقيق فيه أن الشيء إذا كان في نفسه بحيث يمتنع رؤيته، فحينئذ لا يلزم من عدم رؤيته مدح وتعظيم للشيء. أما إذا كان في نفسه جائز الرؤية، ثم إنه قدر على حجب الأبصار عن رؤيته وعن إدراكه كانت هذه القدرة الكاملة دالة على المدح والعظمة. فثبت أن هذه الآية دالة على أنه تعالى جائز الرؤية بحسب ذاته. وإذا ثبت هذا وجب القطع بأن المؤمنين يرونه يوم القيامة، والدليل عليه أن القائل قائلان: قائل قال بجواز الرؤية مع أن المؤمنين يرونه، وقائل قال لا يرونه ولا تجوز رؤيته. فأما القول بأنه تعالى تجوز رؤيته مع أنه لا يراه أحد من المؤمنين فهو قول لم يقل به أحد من الأمة فكان باطلاً. فثبت بما ذكرنا أن هذه الآية تدل على أنه تعالى جائز الرؤية في ذاته، وثبت أنه متى كان الأمر كذلك، وجب القطع بأن المؤمنين يرونه، فثبت بما ذكرنا دلالة هذه الآية على حصول الرؤية وهذا استدلال لطيف من هذه الآية. الوجه الثاني: أن نقول المراد بالأبصار في قوله: { لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلأَبْصَـٰرُ } ليس هو نفس الإبصار فإن البصر لا يدرك شيئاً ألبتة في موضع من المواضع. بل المدرك هو المبصر فوجب القطع بأن المراد من قوله { لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلأَبْصَـٰرُ } هو أنه لا يدركه المبصرون وإذا كان كذلك كان قوله: { وَهُوَ يُدْرِكُ ٱلأَبْصَـٰرَ } المراد منه وهو يدرك المبصرين، ومعتزلة البصرة يوافقوننا على أنه تعالى يبصر الأشياء فكان هو تعالى من جملة المبصرين فقوله: { وَهُوَ يُدْرِكُ ٱلأَبْصَـٰرَ } يقتضي كونه تعالى مبصراً لنفسه، وإذا كان الأمر كذلك كان تعالى جائز الرؤية في ذاته، وكان تعالى يرى نفسه.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9