الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ ٱلنَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا كَذٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ }

{ وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ } الحبل إما بمعنى العهد، كما قال تعالى في الآية بعدها:ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ } [آل عِمْرَان: 112] بعهد وذمة، وإما بمعنى القرآن، كما في صحيح مسلم عن زيد بن أرقم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ألا وإني تارك فيكم ثقلين أحدهما كتاب الله هو حبل الله، من اتبعه كان على الهدى، ومن تركه كان على ضلالة " .. الحديث، والوجهان متقاربان، فإن عهده أي: شرعه ودينه كتابه حرز للمتمسك به من الضلالة، كالحبل الذي يتمسكّ به خشية السقوط، وقوله: { وَلاَ تَفَرَّقُواْ } أي: لا تتفرقوا عن الحق بوقوع الاختلاف بينكم، كما اختلف اليهود والنصارى، أو كما كنتم متفرقين في الجاهلية، متدابرين، يعادي بعضكم بعضاً، ويحاربه، أو ولا تحدثوا ما يكون عنه التفرق، ويزول معه الاجتماع والألفة التي أنتم عليها مما يأباه جامعكم والمؤلف بينكم، وهو اتباع الحق والتمسك بالإسلام أفاده الزمخشريّ.

{ وَٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً } قال الزمخشريّ: كانوا في الجاهلية بينهم الإحن والعداوات والحروب المتواصلة، فألف الله بين قلوبهم بالإسلام، وقذف فيها المحبة، فتحابوا وتوافقوا وصاروا إخواناً متراحمين متناصحين مجتمعين على أمر واحد، قد نظم بينهم وأزال الاختلاف، وهو الأخوة في الله.

{ وَكُنْتُمْ عَلَىٰ شَفَا } أي: طرف { حُفْرَةٍ مِّنَ ٱلنَّارِ } بما كنتم فيه من الجاهلية { فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا } أي: بالإسلام. قال ابن كثير: وهذا السياق في شأن الأوس والخزرج، فإنه كان بينهم حروب كثيرة في الجاهلية وعداوة شديدة وضغائن وإحن طال بسببها قتالهم، والوقائع بينهم. فلما جاء الله بالإسلام، فدخل فيه من دخل منهم، صاروا إخواناً متحابين بجلال الله، متواصلين في ذات الله متعاونين على البرّ والتقوى. قال الله تعالى:هُوَ ٱلَّذِيۤ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِٱلْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ... } [الأنفال: 62-63] الآية، وكانوا على شفا حفرة من النار، بسبب كفرهم، فأنقذهم الله منها، إذ هداهم للإيمان. وقد امتن عليهم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوم قسم غنائم حنين، فعتب من عتب منهم، بما فضل عليهم في القسمة، بما أراه الله، فخطبهم فقال: " يا معشر الأنصار! ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي، وكنتم متفرقين فألفكم الله بي، وعالة فأغناكم الله بي؟ " فكلما قال شيئاً قالوا: الله ورسوله أمنّ انتهى.

لطيفة

قال الزمخشريّ: الضمير في: منها. للحفرة أو للنار أو للشَّفا، وإنما أنث لإضافته إلى الحفرة، وهو منها كما قال:
كما شرقت صدر القناة من الدم   
انتهى.

وقال أبو حيان: لا يحسن عوده إلا إلى الشفا، لأنه المحدَّث عنه - انتهى.

السابقالتالي
2