الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِٱللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ }

{ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ } أي: الناس، أو أهل مكة: { بِٱللَّهِ } أي: في إقرارهم بوجوده وخالقيته { إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ } أي: بعبادتهم لغيره، وباتخاذهم الأحبار والرهبان أربابا، وبقولهم باتخاذه تعالى ولداً. سبحانه وتعالى عما يقولون علوّاً كبيراً.

تنبيه

كما تدل الآية على النعي عليهم بالشرك الأكبر، وهو أن يعبد مع الله غيره. فإنها تشير إلى ما يتخلل الأفئدة، وينغمس به الأكثرون من الشرك الخفي، الذي لا يشعر صاحبه به غالباً. ومنه قول الحسن في هذه الآية: ذاك المنافق، يعمل إذا عمل رئاء الناس، وهو مشرك بعمله. يعني: الشرك في العبادة. فصاحبه - وإن اعتقد وحدانيته تعالى - ولكن لا يخلص له في عبوديته بل يعمل لحظ نفسه، أو طلب الدنيا، أو طلب الرفعة والمنزلة والجاه عند الخلق. فلله من عمله وسعيه نصيب، ولنفسه وحظه وهواه نصيب، وللشيطان نصيب، وللخلق نصيب. وهذا حال أكثر الناس، وهو الشرك الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم، فيما رواه ابن حبان في صحيحه: " الشرك في الأمة أخفى من دبيب النمل " فالرياء كله شرك، وهو محبط للعبادة، مبطل ثواب العمل، ويعاقب عليه إذا كان العمل واجباً. فإنه تعالى أمر بعبادته خالصة.

قال تعالى:وَمَآ أُمِرُوۤاْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ حُنَفَآءَ } [البينة: 5]، فمن لم يخلص لله في عبادته، لم يفعل ما أمر به، بل الذي أتى به شيء غير المأمور، فلا يقبل منه.

وروى مسلم وغيره عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يقول الله: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري، تركته وشركه ".

وروى الإمام أحمد عن محمود بن لبِيد، رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم: " " إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر! " قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: " الرياء " ".

ومن الشرك نوع غير مغفور، وهو الشرك بالله في المحبة والتعظيم، بأن يحب مخلوقاً كما يحب الله. فهذا من الشرك الذي لا يغفره الله، وهو الشرك الذي قال سبحانه فيه:وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَندَاداً } الآية: [البقرة: 165]. وقال أصحاب هذا الشرك لآلهتهم، وقد جمعتهم الجحيم:تَٱللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [الشعراء: 97-98] ومعلوم أنهم ما سوّوهم به سبحانه في الخلق والرزق، والإماتة والإحياء، والملك والقدرة، وإنما سوّوهم به في الحب والتأله، والخضوع لهم والتذلل. وهذا غاية الجهل والظلم. فكيف يسوى من خلق من التراب، برب الأرباب، وكيف يسوى العبيد بمالك الرقاب، وكيف يسوى الفقير بالذات، الضعيف بالذات العاجز بالذات، المحتاج بالذات، الذي ليس له من ذاته إلا العدم، بالغني بالذات، القادر بالذات، الذي غناه وقدرته وملكه ووجوده وإحسانه وعلمه ورحمته وكماله المطلق التام، من لوازم ذاته؟ فأي ظلم أقبح من هذا؟ وأي حكم أشد جوراً منه؟ حيث عدل من لا عدل له، بخلقه - أفاده الشمس ابن القيم في (الجواب الكافي).

السابقالتالي
2 3