الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ ٱللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }

هذا فريق آخر عطف خبره على خبر الفرق الآخرين. والمراد بهؤلاء من بقي من المخلَّفين لم يتب الله عليه، وكان أمرهم موقوفاً إلى أن يقضي الله بما يشاء. وهؤلاء نفر ثلاثة، هم كعب بن مالك، وهِلال ابن أمية، ومُرارة بن الربيع، وثلاثتهم قد تخلفوا عن غزوة تبوك. ولم يكن تخلفهم نفاقاً ولا كراهية للجهاد ولكنهم شُغلوا عند خروج الجيش وهم يحسبون أنهم يلحقونه وانقضت الأيام وأيسوا من اللحاق. وسأل عنهم النبي صلى الله عليه وسلم وهو في تبوك. فلما رجع النبي صلى الله عليه وسلم أتوه وصَدَقوه، فلم يكلمهم، ونهى المسلمين عن كلامهم ومخالطتهم، وأمرهم باعتزال نسائهم، فامتثلوا وبقُوا كذلك خمسين ليلة، فهم في تلك المدة مُرْجَون لأمر الله. وفي تلك المدة نزلت هذه الآيةثم تاب الله عليهم } المائدة 71. وأنزل فيهم قوله { لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار إلى قولهوكونوا مع الصادقين } التوبة 117 ـــ 119. وعن كعب بن مالك في قصته هذه حديث طويل أغر في «صحيح البخاري». على التوبة والتنبيه إلى فتح بابها. وقد جوز المفسرون عود ضميرألم يعلموا } التوبة 104 إلى الفريقين اللذين أشرنا إليهما. وقولههو يقبل التوبة } التوبة 104 هو ضمير فصل مفيد لتأكيد الخبر. وعن عباده } التوبة 104 متعلقة بـــ { يقبل } لتضمنه معنى يتجاوز، إشارة إلى أن قبول التوبة هو التجاوز عن المعاصي المتوب منها. فكأنه قيل يقبل التوبة ويتجاوز عن عباده. وكان حق تعدية فعل يقبل أن يكون بحرف من. ونقل الفخر عن القاضي عبد الجبار أنه قال لعل عن أبلغ لأنه ينبىء عن القبول مع تسهيل سبيله إلى التوبة التي قبلت. ولم يبين وجه ذلك، وأحسب أنه يريد ما أشرنا إليه من تضمين معنى التجاوز. وجيء بالخبر في صورة كلية لأن المقصود تعميم الخطاب، فالمراد بِـــ { عباده } جميع الناس مؤمنهم وكافرهم لأن التوبة من الكفر هي الإيمان. والآية دليل على قبول التوبة قطعاً إذا كانت توبة صحيحة لأن الله أخبر بذلك في غير ما آية. وهذا متفق عليه بالنسبة لتوبة الكافر عن كفره لأن الأدلة بلغت مبلغ التواتر بالقول والعمل. ومختلفٌ فيه بالنسبة لتوبة المؤمن من المعاصي لأن أدلته لا تعدو أن تكون دلالة ظواهر فقال المحققون من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين. مقبولة قطعاً. ونقل عن الأشعري وهو قول المعتزلة واختاره ابن عطية وأبوه وهو الحق. وادعى الإمام في «المعالم» الإجماعَ عليه وهي أولى بالقبول. وقال الباقلاني وإمام الحرمين والمازري إنما يقطع بقبول توبة طائفة غير معينة، يعنون لأن أدلة قبول جنس التوبة على الجملة متكاثرة متواترة بلغت مبلغ القطع ولا يقطع بقبول توبة تائب بخصوصه. وكأنَّ خلاف هؤلاء يرجع إلى عدم القطع بأن التائب المعين تاب توبة نصوحاً.

السابقالتالي
2