الرئيسية - التفاسير


* تفسير أضواء البيان في تفسير القرآن/ الشنقيطي (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ فَٱسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَم مَّنْ خَلَقْنَآ إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ }

ذكر في هذه الآية الكريمة برهانين من براهين البعث، التي قدمنا أنها يكثر في القرآن العظيم الاستدلال بها على البعث.

الأول: هو المراد بقوله: { فَٱسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَم مَّنْ خَلَقْنَآ } لأنّ معنى (فاستفتهم): استخبرهم والأصل في معناه: اطلب منهم الفتوى: وهي الإخبار بالواقع فيما تسألهم عنه أهم أشدّ خلقاً أي أصعب إيجاداً واختراعاً، أم من خلقنا من المخلوقات التي هي أعظم وأكبر منهم، وهي ما تقدّم ذكره من الملائكة المعبر عن جماعاتهم بالصافات، والزاجرات، والتاليات، والسماوات، والأرض، والشمس والقمر، ومردة الشياطين كما ذكر ذلك كله في قوله تعالى:رَّبُّ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ ٱلْمَشَارِقِ إِنَّا زَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنْيَا بِزِينَةٍ ٱلْكَوَاكِبِ وَحِفْظاً مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ } [الصافات: 5ـ7].

وجواب الاستفتاء المذكور الذي لا جواب له غيره هو أن يقال: من خلقت يا ربنا من الملائكة، ومردة الجن والسماوات، والأرض، والمشارق، والمغارب، والكواكب، أشد خلقاً منا، لأنها مخلوقات عظام أكبر، وأعظم منا فيتضح بذلك البرهان القاطع على قدرته جل وعلا على البعث بعد الموت، لأن من المعلوم بالضرورة أن من خلق الأعظم الأكبر كالسماوات والأرض، وما ذكر معهما قادر على أن يخلق الأصغر الأقل كما قال تعالى:لَخَلْقُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ أَكْـبَرُ مِنْ خَلْقِ ٱلنَّاسِ } [غافر: 57] أي ومن قدر على خلق الأكبر فلا شك أنه قادر على خلق الأصغر، كخلق الإنسان خلقاً جديداً بعد الموت. وقال تعالى:أَوَلَـيْسَ ٱلَذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاواتِ وَٱلأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَىٰ وَهُوَ ٱلْخَلاَّقُ ٱلْعَلِيمُ } [يس: 81] وقال تعالى:أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ ٱللَّهَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِـيَ ٱلْمَوْتَىٰ بَلَىٰ إِنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [الأحقاف: 33] وقال تعالى:أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ ٱللَّهَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ قَادِرٌ عَلَىٰ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ } [الإسراء: 99] وقال تعالى في النازعات موضحاً الاستفتاء المذكور في آية الصافات هذه:أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ ٱلسَّمَآءُ بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا وَٱلأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا وَمَرْعَاهَا وَٱلْجِبَالَ أَرْسَاهَا مَتَاعاً لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ } [النازعات: 27ـ33].

وقد علمت أن وجه العبارة بمن التي هي للعالم في قوله تعالى: { أَم مَّنْ خَلَقْنَآ } عن السماوات والأرض والكواكب هو تغليب ما ذكر معها من العالم كالملائكة على غير العالم، وذلك أسلوب عربي معروف.

وأما البرهان الثاني: فهو في قوله: { إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ } لأن من خلقهم أولاً من طين، وأصله التراب المبلول بالماء لا يشك عاقل في قدرته على خلقهم مرة أخرى بعد أن صاروا تراباً، لأن الإعادة لا يعقل أن تكون أصعب من البدء والآيات الموضحة لهذا المعنى كثيرة جداً كقوله تعالى:قُلْ يُحْيِيهَا ٱلَّذِيۤ أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ }

السابقالتالي
2