الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } * { تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } * { يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ }

هذا تخلص إلى الغرض الذي افتتحت به السورة من قولهيا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون } الصف 2 إلى قولهكأنهم بنيان مرصوص } الصف 4. فبعد أن ضربت لهم الأمثال، وانتقل الكلام من مجال إلى مجال، أعيد خطابهم هنا بمثل ما خوطبوا به بقولهيا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون } الصف 2، أي هل أدلكم على أحب العمل إلى الله لتعملوا به كما طلبتم إذْ قلتم لو نعلم أيَّ الأعمال أحبّ إلى الله لعملنا به فجاءت السورة في أُسلوب الخطابة. والظاهر أن الضمير المستتر في { أدلكم } عائد إلى الله تعالى لأن ظاهر الخطاب أنه موجه من الله تعالى إلى المؤمنين. ويجوز أن يجعل الضمير إلى النبي صلى الله عليه وسلم على تقدير قول محذوف وعلى اختلاف الاحتمال يختلف موقع قوله الآتيوبشر المؤمنين } الصف 13. والاستفهام مستعمل في العَرض مجازاً لأن العارض قد يسأل المعروضَ عليه ليعلم رغبته في الأمر المعروض كما يقال هل لك في كذا؟ أو هل لك إلى كذا؟ والعرض هنا كناية عن التشويق إلى الأمر المعروض، وهو دلالته إياهم على تجارة نافعة. وألفاظ الاستفهام تخرج عنه إلى معان كثيرة هي من ملازمات الاستفهام كما نبه عليه السكّاكي في «المفتاح»، وهي غير منحصرة فيما ذكره. وجيء بفعل { أدلكم } لإِفادة ما يذكر بعده من الأشياء التي لا يهتدى إليها بسهولة. وأطلق على العمل الصالح لفظُ التجارة على سبيل الاستعارة لمشابهة العمل الصالح التجارةَ في طلب النفع من ذلك العمل ومزاولته والكد فيه، وقد تقدم في قوله تعالىفما ربحت تجارتهم } في سورة البقرة 16. ووصف التجارة بأنها تنجي من عذاب أليم، تجريد للاستعارة لقصد الصراحة بهذه الفائدة لأهميتها وليس الإِنجاء من العذاب من شأن التجارة فهو من مناسبات المعنى الحقيقي للعمل الصالح. وجملة { تؤمنون بالله ورسوله } مستأنفة استئنافاً بيانياً لأن ذكر الدلالة مجمل والتشويقُ الذي سبقها مما يثير في أنفس السامعين التساؤل عن هذا الذي تدلنا عليه وعن هذه التجارة. وإذ قد كان الخطاب لقوم مؤمنين فإن فِعْل { تؤمنون بالله } مع { وتجاهدون } مراد به تجمعون بين الإِيمان بالله ورسوله وبين الجهاد في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم تنويهاً بشأن الجهاد. وفي التعبير بالمضارع إفادة الأمر بالدوام على الإِيمان وتجديده في كل آن، وذلك تعريض بالمنافقين وتحذير من التغافل عن ملازمة الإِيمان وشؤونه. وأما { وتجاهدون } فإنه لإِرادة تجدّد الجهاد إذا استُنفِروا إليه. ومجيء { يغفر } مجْزوماً تنبيه على أن { تؤمنون } { وتجاهدون } وإن جاءا في صيغة الخبر فالمراد الأمرُ لأن الجزم إنما يكون في جواب الطلب لا في جواب الخبر. قاله المبرد والزمخشري. وقال الفراء جزم { يغفرْ } لأنه جواب { هل أدلكم } ، أي لأن متعلق { أدلكم } هو التجارة المفسرة بالإِيمان والجهاد، فكأنه قيل هل تتَّجرون بالإِيمان والجهاد يَغفرْ لكم ذنوبكم.

السابقالتالي
2