قوله تعالى: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ }: في " كان " هذه ستةُ أقوال، أحدها: أنها ناقصةٌ على بابها، وإذا كانت كذلك فلا دلالةَ على مُضِيٍّ وانقطاع، بل تصلح للانقطاع نحو: " كان زيد قائماً " وتصلح للدوام نحو:{ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } [النساء: 16]{ وَلاَ تَقْرَبُواْ ٱلزِّنَىٰ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً } [الإسراء: 32]، فهي هنا بمنزلَةِ " لم يَزَلْ " وهذا بحسَبِ القرائن. وقال الزمخشري: " كان " عبارةٌ عن وجود الشيء في زمن ماض على سبيل الإِبهام، وليس فيه دليلٌ على عَدَمٍ سابق ولا على انقطاع طارىء، ومنه قولُه تعالى: { وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } وقوله: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ } كأنه قيل: " وُجِدْتُم خيرَ أمة ". قال الشيخ: قوله " لم تَدُلَّ على عدمٍ سابقٍ " هذا إذا لم تكن بمعنى " صار " فإذا كانت بمعنى " صار " دلَّت على عدمٍ سابقٍ، فإذا قلت: " كان زيد عالماً " بمعنى " صار زيد عالماً " دَلَّتْ على أنه انتقل من حالة الجهل إلى حالة العلم، وقولُه: " ولا على انقطاع طارىء " قد ذكرنا قبلُ أن الصحيح أنها كسائر الأفعال يَدُلُّ لفظ المُضِيِّ منها على الانقطاع، ثم قد تُسْتعمل حيث لا انقطاعَ، وفَرْقٌ بين الدلالة والاستعمال، ألا ترى أنك تقول: " هذا اللفظُ يَدُلُّ على العموم " ثم قد يستعمل حيث لا يُرادُ العمومُ بل يرُاد الخصوصُ. وقوله: " كأنه قيل وُجِدْتُم خيرَ أمة " هذا يعارِضُ قولَه " إنها مثلُ قوله: { وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } لأن تقديرَه " وُجِدتم خير أمة " يَدُلُّ على أنها التامة وأن " خير أمة " حالٌ. وقوله: { وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } لا شك أنها هنا الناقصةُ فتعارضا " قلت: لا تعارُضَ لأنَّ هذا تفسيرُ معنًى لا تفسيرُ إعرابٍ. الثاني: أنها بمعنى " صِرْتُم " و " كان " تأتي بمعنى " صار " كثيراً كقوله:
1385ـ بتيهاءَ قَفْرٍ والمَطِيُّ كأنها
قَطَا الحَزْنِ قد كانَتْ فِراخا بيوضُها
أي: صارَتْ فراخاً. الثالث: أنها تامةٌ بمعنى وُجِدْتُم، و " خيرَ أمة " على هذا منصوبٌ على الحال أي: وُجدتم في هذه الحال. الرابع: أنها زائدةٌ، والتقديرُ: أنتم خيرُ أمةٍ، وهذا قولٌ مرجوحٌ أوغَلَطٌ لوجهين، أحدُهما: أنها لا تُزاد أولاً، وقد نَقَلَ ابن مالك الاتفاقَ على ذلك. والثاني: أنها لا تعمل في " خير " مع زيادتِها، وفي الثاني نظرٌ، إذ الزيادةُ لا تنافي العملَ، وقد تقدَّم عليه دلائلُ في البقرة عند قولِه:{ أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } [البقرة: 246]. الخامس: أنها على بابِها، والمرادُ: كنتم في علمِ الله، أو في اللوح المحفوظ. السادس: أن هذه الجملةَ متصلةٌ بقوله: { فَفِي رَحْمَةِ ٱللَّهِ } أي: فيُقال: لهم في القيامة { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ } ، وهو بعيدٌ جداً.