الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ ٱلتَّائِبُونَ ٱلْعَابِدُونَ ٱلْحَامِدُونَ ٱلسَّائِحُونَ ٱلرَّاكِعُونَ ٱلسَّاجِدونَ ٱلآمِرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَٱلنَّاهُونَ عَنِ ٱلْمُنكَرِ وَٱلْحَافِظُونَ لِحُدُودِ ٱللَّهِ وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ }

فيه ثلاث مسائل: الأولىٰ ـ قوله تعالىٰ: { ٱلتَّائِبُونَ ٱلْعَابِدُونَ } التائبون هم الراجعون عن الحالة المذمومة في معصية الله إلى الحالة المحمودة في طاعة الله. والتائب هو الراجع. والراجع إلى الطاعة هو أفضل من الراجع عن المعصية لجمعه بين الأمرين. { ٱلْعَابِدُونَ } أي المطيعون الذين قصدوا بطاعتهم الله سبحانه. { ٱلْحَامِدُونَ } أي الرّاضون بقضائه المصرفون نعمته في طاعته، الذين يحمدون الله على كل حال. { ٱلسَّائِحُونَ } الصائمون عن ابن مسعود وٱبن عباس وغيرهما. ومنه قوله تعالىٰ:عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ } [التحريم: 5]. وقال سفيان بن عُيينة: إنما قيل للصائم سائح لأنه يترك اللذات كلَّها من المطعم والمشرب والمنكح. وقال أبو طالب:
وبالسائحين لا يذوقون قطرة   لربهم والذاكرات العوامل
وقال آخر:
برَّا يصلِّي ليله ونهاره   يَظَلّ كثير الذكر لله سائحاً
وروي عن عائشة أنها قالت: سياحة هذه الأمة الصيامُ أسندهُ الطبري. ورواه أبو هريرة مرفوعاً عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: " سياحة أمتي الصيام " قال الزجاج: ومذهب الحسن أنهم الذين يصومون الفرض. وقد قيل: إنهم الذين يديمون الصيام. وقال عطاء: السائحون المجاهدون. وروىٰ أبو أُمامة أن رجلاً ٱستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في السياحة فقال: " إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله " صححه أبو محمد عبد الحق. وقيل: السائحون المهاجرون قاله عبد الرحمن بن زيد. وقيل: هم الذين يسافرون لطلب الحديث والعلم قاله عكرمة. وقيل: هم الجائلون بأفكارهم في توحيد ربهم وملكوته، وما خلق من العبر والعلامات الدالة على توحيده وتعظيمه حكاه النقاش. وحكي أن بعض العُبّاد أخذ القدح ليتوضأ لصلاة الليل فأدخل أصبعه في أذن القدح وقعد يتفكر حتى طلع الفجر فقيل له في ذلك فقال: أدخلت أصبعي في أذن القدح فتذكرت قول الله تعالىٰ:إِذِ ٱلأَغْلاَلُ فِيۤ أَعْنَاقِهِمْ وٱلسَّلاَسِلُ } [غافر: 71] وذكرت كيف أتلقىٰ الغُلّ وبقيت ليلي في ذلك أجمع. قلت: لفظ «س ي ح» يدل على صحة هذه الأقوال فإن السياحة أصلها الذهاب على وجه الأرض كما يسيح الماء فالصائم مستمر على الطاعة في ترك ما يتركه من الطعام وغيره، فهو بمنزلة السائح. والمتفكرون تجول قلوبهم فيما ذكروا. وفي الحديث: " إن لله ملائكة سياحين مشائين في الآفاق يبلغونني صلاة أمتي " ويروى " صياحين " بالصاد، من الصياح. { ٱلرَّاكِعُونَ ٱلسَّاجِدونَ } يعني في الصلاة المكتوبة وغيرها. { ٱلآمِرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ } أي بالسنة، وقيل: بالإيمان. { وَٱلنَّاهُونَ عَنِ ٱلْمُنكَرِ } قيل: عن البِدعة. وقيل: عن الكفر وقيل: هو عموم في كل معروف ومنكر. { وَٱلْحَافِظُونَ لِحُدُودِ ٱللَّهِ } أي القائمون بما أمر به والمنتهون عما نهىٰ عنه. الثانية ـ واختلف أهل التأويل في هذه الآية، هل هي متصلة بما قبلُ أو منفصلة فقال جماعة: الآية الأُولى مستقلة بنفسها يقع تحت تلك المبايعة كلُّ موحِّد قاتل في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا، وإن لم يتصف بهذه الصفات في هذه الآية الثانية أو بأكثرها.

السابقالتالي
2