الرئيسية - التفاسير


* تفسير روح المعاني/ الالوسي (ت 1270 هـ) مصنف و مدقق


{ وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ ٱللَّهِ فَأَذَاقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلْجُوعِ وَٱلْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ }

{ وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً } أي أهل قرية وذلك إما بإطلاق القرية وإرادة أهلها وإما بتقدير مضاف، وانتصابه على أنه مفعول أول ـ لضرب ـ على تضمينه معنى الجعل، وأخر لئلا يفصل الثاني بين الموصوف وصفته وما يترتب عليها، وتأخيره عن الكل مخل بتجاوب أطراف النظم الجليل وتجاذبه، ولأن تأخير ما حقه التقديم مما يورث النفس شوقاً لوروده لا سيما إذا كان في المقدم ما يدعو إليه كما هنا فيتمكن عند وروده فضل تمكن، وعن الزجاج أن النصب على البدلية والأصل عنده ضرب الله مثلاً مثل قرية فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، والمراد بالقرية إما قرية محققة من قرى الأولين، وإما مقدرة ووجود المشبه به غير لازم، ولم يجوز ذلك أبو حيان لمكانوَلَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مّنْهُمْ } [النحل: 113] وأنت تعلم أنه غير مانع. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس ومجاهد أنها مكة، وروي هذا عن ابن زيد وقتادة وعطية، وأخرج ابن أبـي حاتم وغيره عن سليم بن عمر قال: صحبت حفصة زوج النبـي صلى الله عليه وسلم وهي خارجة من مكة إلى المدينة فأخبرت أن عثمان قد قتل فرجعت وقالت: ارجعوا بـي فوالذي نفسي بيده إنها للقرية التي قال الله تعالى وتلت ما في الآية، ولعلها أرادت أنها مثلها؛ ويمكن حمل ما روي عن الحبر ومن معه على ذلك، والمعنى جعلها الله تعالى مثلاً لأهل مكة أو لكل قوم أنعم الله تعالى عليهم فأبطرتهم النعمة ففعلوا ما فعلوا فجوزوا بما جوزوا، ودخل فيهم أهل مكة دخولاً أولياً. ولعله المختار.

{ كَانَتْ ءامِنَةً } قيل: ذات أمن لا يأتي عليها ما يوجب الخوف كما يأتي على بعض القرى من إغارة أهل الشر عليها وطلب الإيقاع بها { مُّطْمَئِنَّةً } ساكنة قارة لا يحدث فيها ما يوجب الانزعاج كما يحدث في بعض القرى من الفتن بين أهاليها ووقوع بعضهم في بعض فإنها قلما تأمن من إغارة شرير عليها وهيهات هيهات أن ترى شخصين متصادقين فيها:
والمرء يخشى من أبيه وابنه   ويخونه فيها أخوه وجاره
وقيل: يفهم من كلام بعضهم أن الاطمئنان أثر الأمن ولازمه من حيث إن الخوف يوجب الانزعاج وينافي الاطمئنان، وفي «البحر» أنه زيادة في الأمن { يَأْتِيهَا رِزْقُهَا } أقواتها { رَغَدًا } واسعاً { مّن كُلّ مَكَانٍ } من جميع نواحيها، وغير أسلوب هذه الصفة عما تقدم إلى ما ترى لما أن إتيان الرزق متجدد وكونها آمنة مطمئنة ثابت مستمر، وذكر الإمام أن الآية تضمنت ثلاث نعم جمعها قولهم:
ثلاثة ليس لها نهاية   الأمن والصحة والكفاية
فآمنة إشارة إلى الأمن و { مُّطْمَئِنَّةً } إلى الصحة و { يَأْتِيهَا رِزْقُهَا } الخ إلى الكفاية، وجعل سبب الاطمئنان ملاءمة هواء البلد لأمزجة أهله وفيه تأمل { فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ ٱللَّهِ } جمع نعمة كشدة وأشد على ترك الاعتداد بالتاء لأن المطرد جمع فعل على أفعال لا فعلة، وقال الفاضل اليمني: اسم جمع للنعمة، وقطرب جمع نعم بضم النون كبؤس وأبؤس، والنعم عنده بمعنى النعيم، وحمل على ذلك قولهم: هذا يوم طعم ونعم، وعند غيره بمعنى النعمة، والمراد بالنعم ما تضمنته الآية قبل؛ ولعله في قوة نعم كثيرة بل هو كذلك، وفي إيثار جمع القلة إيذان بأن كفران نعم قليلة أوجبت هذا العذاب فما ظنك بكفران نعم كثيرة.

السابقالتالي
2 3