الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ ٱلتَّائِبُونَ ٱلْعَابِدُونَ ٱلْحَامِدُونَ ٱلسَّائِحُونَ ٱلرَّاكِعُونَ ٱلسَّاجِدونَ ٱلآمِرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَٱلنَّاهُونَ عَنِ ٱلْمُنكَرِ وَٱلْحَافِظُونَ لِحُدُودِ ٱللَّهِ وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ }

اسماء الفاعلين هنا أوصاف للمؤمنين من قولهإن الله اشترى من المؤمنين } التوبة 111 فكان أصلها الجر، ولكنها قطعت عن الوصفية وجعلت أخباراً لمبتدأ محذوف هو ضمير الجمع اهتماماً بهذه النعوت اهتماماً أخرجها عن الوصفية إلى الخبرية، ويسمى هذا الاستعمال نعتاً مقطوعاً، وما هو بنعت اصطلاحي ولكنه نعت في المعنى. فــ { التائبون } مراد منه أنهم مفارقون للذنوب سواء كان ذلك من غير اقترافِ ذنب يقتضي التوبة كما قال تعالىلقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه } التوبة 117 الآية أم كان بعد اقترافه كقوله تعالىفإن يتوبوا يك خيراً لهم } التوبة 74 بعد قولهولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم } التوبة 74 الآية المتقدمة آنفاً. وأول التوْبة الإيمان لأنه إقلاع عن الشرك، ثم يدخل منهم من كان له ذنب مع الإيمان وتاب منه. وبذلك فارق النعت المنعوت وهوالمؤمنين } التوبة 111. و { العابدون } المؤدّون لما أوجب الله عليهم. و { الحامدون } المعترفون لله تعالى بنعمه عليهم الشاكرون له. و { السائحون } مشتق من السياحة. وهي السير في الأرض. والمراد به سير خاص محمود شرعاً. وهو السفر الذي فيه قربة لله وامتثال لأمره، مثل سفر الهجرة من دار الكفر أو السفر للحج أو السفر للجهاد. وحمله هنا على السفر للجهاد أنسب بالمقام وأشمل للمؤمنين المأمورين بالجهاد بخلاف الهجرة والحج. و { الراكعون الساجدون } هم الجامعون بينهما، أي المصلون، إذ الصلاة المفروضة لا تخلو من الركوع والسجود. و { الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر } الذين يَدْعون الناس إلى الهدى والرشاد وينهونهم عما ينكره الشرع ويأباه. وإنما ذكر الناهون عن المنكر بحرف العطف دون بقية الصفات، وإن كان العطف وتركه في الأخبار ونحوها جائزين، إلا أن المناسبة في عطف هذين دون غيرهما من الأوصاف أن الصفات المذكورة قبلها في قوله { الراكعون الساجدون } ظاهرة في استقلال بعضها عن بعض. ثم لما ذكر { الراكعون الساجدون } علم أن المراد الجامعون بينهما، أي المصلون بالنسبة إلى المسلمين. ولأن الموصوفين بالركوع والسجود ممن وعدهم الله في التوارة والإنجيل كانت صلاة بعضهم ركوعاً فقط، قال تعالى في شأن داود عليه السلاموخر راكعاً وأناب } ص 24، وبعض الصلوات سجوداً فقط كبعض صلاة النصارى، قال تعالىيا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين } آل عمران 43. ولما جاء بعده { الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر } وكانا صفتين مستقلتين عطفتا بالواو لئلا يتوهم اعتبار الجمع بينهما كالوصفين اللذين قبلهما وهما { الراكعون الساجدون } فالواو هنا كالتي في قوله تعالىثيبات وأبكاراً } التوبة 112. و { الحافظون لحدود الله } صفة جامعة للعمل بالتكاليف الشرعية عند توجهها. وحقيقة الحفظ توخي بقاء الشيء في المكان الذي يراد كونه فيه رغبة صاحبه في بقائه ورعايته عن أن يضيع. ويطلق مجازاً شائعاً على ملازمة العمل بما يؤمر به على نحو ما أمر به وهو المراد هنا، أي والحافظون لما عين الله لهم، أي غير المضيعين لشيء من حدود الله.

السابقالتالي
2