الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إِلَىٰ ءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً }

لما كانت قصة موسى ــــ عليه السلام ــــ مع فرعون ومع قومه ذات عبرة للمكذبين والمعاندين الذين كذبوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وعاندوه، وذلك المقصود من قَصَصها كما أشرنا إليه آنفاً عند قولهكذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق وقد آتيناك من لدنا ذكراً من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزراً } طه 99، 100 فكأن النبي - صلى الله عليه وسلم - استحب الزيادة من هذه القِصص ذات العبرة رجاء أن قومه يفيقون من ضلالتهم كما أشرنا إليه قريباً عند قولهولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه } طه 114 أعقبت تلك القصة بقصة آدم ــــ عليه السلام ــــ وما عرّض له به الشيطان، تحقيقاً لفائدة قولهوقل رب زدني علماً } طه 114. فالجملة عطف قصة على قصة والمناسبة ما سمعتَ.والكلام معطوف على جملة { كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق }. وافتتاح الجملة بحرف التحقيق ولام القسم لمجرد الاهتمام بالقصة تنبيهاً على قصد التنظير بين القصتين في التفريط في العهد، لأن في القصة الأولى تفريط بني إسرائيل في عهد الله، كما قال فيهاألم يعدكم ربكم وعداً حسناً أفطال عليكم العهد } طه 86، وفي قصة آدم تفريطاً في العهد أيضاً. وفي كون ذلك من عمل الشيطان كما قال في القصة الأولىوكذلك سولت لي نفسي } طه 96 وقال في هذهفوسوس إليه الشيطان } طه 120. وفي أن في القصتين نسياناً لما يجب الحفاظ عليه وتذكره فقال في القصة الأولىفَنَسِيَ } طه 16 وقال في هذه القصة { فنسي ولم نجد له عزماً }.وعليه فقوله { من قبلُ } حُذف ما أضيف إليه قبلُ. وتقديره من قبل إرسال موسى أو من قبل ما ذكر، فإن بناء قبلُ على الضم علامة حذف المضاف إليه ونيّة معناه. والذي ذكر إما عهد موسى الذي في قوله تعالىوأنا اخترتك فاستمع لما يوحى } طه 13 وقولهفلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى } طه 16 وإما عهد الله لبني إسرائيل الذي ذكّرهم به موسى ــــ عليه السلام ــــ لما رجع إليهم غضبان أسفاً، وهو ما في قولهأفطال عليكم العهد } طه 86 الآية.والمراد بالعهد إلى آدم العهد إليه في الجنّة التي أنسي فيها.والنسيان أطلق هنا على إهمال العمل بالعهد عمداً، كقوله في قصة السامري { فَنَسي } ، فيكون عصياناً، وهو الذي يقتضيه قوله تعالىوقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين } الآية، وقد مضت في سورة الأعراف 20، 21. وهذا العهد هو المُبيّن في الآية بقولهفقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك } طه 117 الآية.والعزم الجزم بالفعل وعدم التردد فيه، وهو مغالبة ما يدعو إليه الخاطر من الانكفاف عنه لعسر عمله أو إيثار ضده عليه. وتقدم قوله تعالىوإن عزموا الطلاق } في سورة البقرة 227. والمراد هنا العزم على امتثال الأمر وإلغاءُ ما يحسِّن إليه عدمَ الامتثال، قال تعالىفإذا عزمت فتوكل على الله } آل عمران 159، وقالفاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل } الأحقاف 35، وهم نوح، وإبراهيم، وإسماعيل، ويعقوب، ويوسف، وأيوب، وموسى، وداوود، وعيسى عليهم السلام.واستعمل نفي وجدان العزم عند آدم في معنى عدم وجود العزم من صفته فيما عهد إليه تمثيلاً لحال طلب حصوله عنده بحال الباحث على عزمه فلم يجده عنده بعد البحث.