الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ ٱلْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْفَسَادِ فِي ٱلأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَٱتَّبَعَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مَآ أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ }

قوله تعالى: { فَلَوْلاَ كَانَ }: " لولا " تحضيضيةٌ دخلها معنى التفجُّع عليهم، وهو قريبٌ مِنْ مجازِ قوله تعالى:يٰحَسْرَةً عَلَى ٱلْعِبَادِ } [يس: 30]. وما يُرْوَىٰ عن الخليل أنه قال: " كلُّ " لولا " في القرآن فمعناها " هَلاَّ " إلا التي في الصافَّات:فَلَوْلاَ أَنَّهُ [كَانَ مِنَ ٱلْمُسَبِّحِينَ] } [الآية: 143]، لا يصح عنه لورودها كذلك في غير الصافات:لَّوْلاَ أَن تَدَارَكَهُ } [القلم: 49]وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ } [الفتح: 25]،وَلَوْلاَ رِجَالٌ } [الإسراء: 74].

و " مِن القُرون ": يجوزُ أن يتعلق بـ " كان " لأنها هنا تامة، إذ المعنىٰ: فهلاَّ وُجِد من القرون، أو حَدَث، ونحو ذلك، ويجوز أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من " أُولو بَقِيَّة " لأنه لو تأخَّر عنه لجاز أن يكون نعتاً له. و " مِنْ قبلكم " حال من " القرون " و " يَنْهَوْن " حالٌ من " أولو بقية " لتخصُّصه بالإِضافة، ويجوز أن يكون نعتاً لـ " أُولوا بقية " وهو أَوْلىٰ.

ويَضْعُفُ أن تكونَ " كان " هذه ناقصةً لبُعد المعنىٰ مِنْ ذلك، وعلىٰ تقديرِه يتعيَّن تَعَلُّق " من القرون " بالمحذوف على أنه حالٌ، لأنَّ " كان " الناقصة لا تعمل عند جمهور النحاة، ويكون " يَنْهَوْن " في محل نصب خبراً لـ " كان ".

وقرأ العامَّة: " بَقِيَّة " بفتح الباء وتشديد الياء، وفيها وجهان، أحدهما: أنها صفةٌ على فَعيلة للمبالغة بمعنى فاعل، ولذلك دخلت التاءُ فيها، والمرادُ بها حينئذٍ جُنْدُ الشيء وخياره، وإنما قيل لجنده وخياره " بقيَّة " في قولهم: " فلان بقيةُ الناس، وبقيةُ الكرام، لأن الرجلَ يَسْتَبْقي ممَّا يُخْرِجه أجودَه وأفضلَه، وعليه حُمل بيت الحماسة:
2730 ـ إنْ تُذْنِبُوا ثم تَأْتِيني بقيَّتُكم   .........................
وفي المثل " في الزوايا خبايا، وفي الرجال بقايا ".

والثاني: أنها مصدرٌ بمعنى البَقْوىٰ. قال الزمخشري: " ويجوز أن تكونَ البقيَّة بمعنى البَقْوىٰ، كالتقيَّة بمعنى التقوىٰ، أي: فهلا كان منهم ذوو إبقاءٍ على أنفسهم وصيانةٍ لها من سخط اللَّه وعقابه ".

وقرأ فرقةٌ/ " بَقِيَة " بتخفيف الياء وهي اسمُ فاعلٍ مِنْ بقي كشَجِيَة مِنْ شَجِي، والتقدير: أولو طائفةٍ بَقِيةٍ أي: باقية. وقرأ أبو جعفر وشيبة " بُقْية " بضم الفاء وسكون العين. وقُرىء " بَقْيَة " على المَرَّة من المصدر. و " في الأرض " متعلقٌ بالفَساد، والمصدرُ المقترن بأل يعمل في المفاعيل الصريحة فكيف في الظروف؟ ويجوز أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنه حالٌ من " الفساد ".

قوله: { إِلاَّ قَلِيلاً } فيه وجهان، أحدهما؛ أن يكون استثناءً منقطعاً، وذلك أن يُحمل التحضيضُ على حقيقته، وإذا حُمل على حقيقته تعيَّن أن يكونَ الاستثناء منقطعاً لئلا يفسُدَ المعنىٰ.

السابقالتالي
2 3