الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَآءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَآ أَنتَ نَذِيرٌ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ }

{ فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ } أي: بتلاوته عليهم، وتبليغه إليهم، { أَن يَقُولُواْ } أي: مخافة أن يقولوا، تعامياً عن تلك البراهين التي لا تكاد تخفي صحتها على أحد ممن له أدنى بصيرة، وتمادياً في العناد على وجه الاقتراح { لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَآءَ مَعَهُ مَلَكٌ } أي: هلاّ أنزل عليه ما اقترحنا من الكنز والملائكة، زعماً أن الرسول متبوع، لا بد له من الإنفاق على أتباعه، ولا يتأتى مع عدم سلطنته إلا بإلقاء الكنز عليه، أو مجيء ملَك معه يصدق برسالته، فقال تعالى: { إِنَّمَآ أَنتَ نَذِيرٌ } أي: ليس عليك إلا الإنذار بما أوحي إليك، غير مبال بما صدر منهم من الاقتراح { وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ } أي: فيحفظ ما يقولون ويجازيهم عليه، فَكِلْ أمرك إليه، وبلغ وحيه بقلب منشرح، غير مبال بهم.

لطائف

الأولى: قال القاشانيّ: لما لم يقبلوا كلامه صلى الله عليه وسلم بالإرادة، وأنكروا قوله بالاقتراحات الفاسدة، وقابلوه بالعناد والاستهزاء، ضاق صدره، ولم ينبسط للكلام، إذ الإرادة تجذب الكلام، وقبولُ المستمع يزيد نشاط المتكلم، ويوجب بسطه فيه، وإذا لم يجد المتكلم محلا قابلاً لم يتسهل له، وبقي كرباً عنده، فشجعه الله تعالى بذلك، وهيّج قوته ونشاطه بقوله: { إِنَّمَآ أَنتَ نَذِيرٌ } ، فلا يخلو إنذارك من إحدى الفائدتين: إما رفع الحجاب أن ينجع فيمن وفقه الله تعالى لذلك، وإما إلزام الحجة لمن لم يوفق لذلك، ثم كل الهداية إليه.

الثانية: لا يخفى أن (لعل) للترجي، وهو وإن اقتضى التوقع، إلا أنه لا يلزم من توقع الشيء وقوعه، ولا ترجح وقوعه، لوجود ما يمنع منه. وتوقع ما لا يقع منه، المقصود تحريضه على تركه، وتهييج داعيته.

وقيل: (لعل) هنا للتبعيد لا للترجي، فإنها تستعمل كذلك، كما تقول العرب: لعلك تفعل كذا، لمن لا يقدر عليه. فالمعنى لا تترك.

وقيل: إنها للاستفهام الإنكاريّ كما في الحديث: لعلنا أعجلناك.

وقيل: هي لتوقع الكفار، فكما تكون لتوقع المتكلم، وهو الأصل، لأن معاني الإنشآت قائمة به - تكون لتوقع المخاطب أو غيره، ممن له ملابسة بمعناه كما هنا، فالمعنى: إنك بلغ الجهد في تبليغهم أنهم يتوقعون منك ترك التبليغ لبعضه - كذا في العناية.

الثالثة: إنما عدل عن (ضيّق) الصفة المشبهة إلى (ضائق) اسم الفاعل، ليدل على أنه ضيق عارض، غير ثابت؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أفسح الناس صدراً. وكذا كل صفة مشبهة إذا قصد بها الحدوث تحوّل إلى فاعل، فيقولون في سيد سائد في جواد جائد، وفي سمين سامن. قال:
بمنزلة، أَمَّا اللئيمُ فَسَامِنٌ   بها، وكرامُ الناس بادٍ شحوبُها
وظاهر كلام أبي حيّان أنه مقيس، وقيل إنه لمشابهة (تارك)، ومنه يعلم أن المشاكلة قد تكون حقيقة - كذا في العناية.