الرئيسية - التفاسير


* تفسير الوسيط في تفسير القرآن الكريم/ طنطاوي (ت 1431 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِٱلْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } * { وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ ٱجْهَرُواْ بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ } * { أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلْخَبِيرُ } * { هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ ذَلُولاً فَٱمْشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ ٱلنُّشُورُ } * { ءَأَمِنتُمْ مَّن فِي ٱلسَّمَآءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ ٱلأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ } * { أَمْ أَمِنتُمْ مِّن فِي ٱلسَّمَآءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ } * { وَلَقَدْ كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نكِيرِ }

قوله { يَخْشَوْنَ } من الخشية، وهى أشد الخوف وأعظمه، والغيب مصدر غاب يغيب، وكثيرا ما يستعمل بمعنى الغائب، وهو ما لا تدركه الحواس ولا يعلم ببداهة العقل. أى إن الذين يخشون ربهم فيخافون عذابه، ويعبدونه كأنهم يرونه، مع أنهم لا يرونه بأعينهم.. هؤلاء الذين تلك صفاتهم، لهم من خالقهم - عز وجل - مغفرة عظيمة، وأجر بالغ الغاية فى الكبر والضخامة. وقوله { بِٱلْغَيْبِ } حال من الفاعل، أى غائبا عنهم، أو من المفعول. أى غائبين عنه. أى. يخشون عذابه دون أن يروه - سبحانه -. ويجوز أن يكون المعنى يخشون عذابه حال كونهم غائبين عن أعين الناس، فهم يراقبونه - سبحانه - فى السر، كما يراقبونه فى العلانية كما قال الشاعر
يتجنب الهفوات فى خلواته عف السريرة، غَيبُه كالمشهد   
والحق أن هذه الصفة، وهى خوف الله - تعالى - بالغيب، على رأس الصفات التى تدل على قوة الإِيمان، وعلى طهارة القلب، وصفاء النفس.. ثم بين - سبحانه - بأبلغ أسلوب، أن السر يتساوى مع العلانية بالنسبة لعلمه - تعالى - فقال { وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ ٱجْهَرُواْ بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ... }. وقد ذكروا فى سبب نزول هذه الآية، أن المشركين كانوا ينالون من النبى صلى الله عليه وسلم فلما أطلعه الله - تعالى - على أمرهم، فقال بعضهم لبعض أسروا قولكم كى لا يسمعه رب محمد.. وصيغة الأمر فى قوله { وَأَسِرُّواْ } و { ٱجْهَرُواْ } مستعملة فى التسوية بين الأمرين، كما فى قوله - تعالى - { فَٱصْبِرُوۤاْ أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ... } أى إن إسراركم - أيها الكافرون - بالإِساءة إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم - أو جهركم بهذه الإِساءة، يستويان فى علمنا، لأننا لا يخفى علينا شئ من أحوالكم، فسواء عندنا من أسر منكم القول ومن جهر به. وجملة { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ } تعليق للتسوية المستفادة من صيغة الأمر أى سواء فى علمه - تعالى- إسراركم وجهركم، لأنه - سبحانه - عليم علما تاما بما يختلج فى صدوركم، وما يدور فى نياتكم التى هى بداخل قلوبكم. وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى -وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ ٱلْوَرِيدِ } ثم أكد - سبحانه - شمول علمه لكل شئ بقوله { أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلْخَبِيرُ }. واللطيف من اللطف، وهو العالم بخبايا الأمور، والمدبر لها برفق وحكمة ويسر.. والخبير من الخُبْر، وهو العلم بجزئيات الأشياء الخفية، التى من شأنها أن يخبر الناس بعضهم بعضا بحدوثها، لأنها كانت خافية عليهم. ولفظ { من } فى قوله { مَنْ خَلَقَ } يصح أن يكون مفعولا لقوله { يَعْلَمُ } ، والعائد محذوف أى ألا يعلم الله - تعالى - شأن الذين خلقهم، والحال أنه - سبحانه - هو الذى لطف علمه ودق، إذ هو المدبر لأمور خلقه برفق وحكمة، العليم علما تاما بأسرار النفوس وخبايا ما توسوس به.

السابقالتالي
2 3 4