الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَٰهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي ٱلنَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي ٱلظُّلُمَٰتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَٰفِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }

الواو في قوله { أو من كان ميتاً } عاطفة لجملة الاستفهام على جملةوإن أطعتموهم إنَّكم لمشركون } الأنعام 121 لتضمّن قوله { وإن أطعتموهم } أنّ المجادلة، المذكورة من قَبْلُ، مجادلة في الدّين بتحسين أحوال أهل الشّرك وتقبيح أحكام الإسلام الّتي منها تحريم الميتة، وتحريم ما ذُكر اسم غير الله عليه. فلمّا حَذر الله المسلمين من دسائس أولياء الشّياطين ومجادلتهم بقولهوإن أطعتموهم إنَّكم لمشركون } الأنعام 121 أعقَب ذلك بتفظيع حال المشركين، ووصَفَ حسن حالة المسلمين حين فارقوا الشّرك، فجاء بتمثيلين للحالتين، ونفَى مساواة إحداهما للأخرى تنبيها على سوء أحوال أهل الشّرك وحسننِ حال أهل الإسلام. والهمزة للاستفهام المستعمل في إنكار تَماثل الحالتين فالحالة الأولى حالة الّذين أسلموا بعد أن كانوا مشركين، وهي المشبّهة بحال مَن كان ميّتاً مودَعاً في ظلمات، فصار حيّاً في نورٍ واضححٍ، وسار في الطّريق الموصّلة للمطلوب بين النّاس، والحالة الثّانية حالةُ المشرك وهي المشبّهة بحالة من هو في الظلمات ليس بخارج منها، لأنَّه في ظلمات. وفي الكلام إيجازُ حذففٍ، في ثلاثة مواضع، استغناء بالمذكور عن المحذوف فقوله { أو من كان ميتاً } معناه أَحَال مَن كان ميّتاً، أو صِفة مَن كان ميّتاً. وقوله { وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس } يدلّ على أنّ المشبّه به حال مَن كان ميّتاً في ظُلمات. وقوله كمن مثله في الظلمات تقديره كمن مثله مثَل ميّت فما صدْق مَن ميّت بدليل مقابلته بميّت في الحالة المشبّهة، فيعلم أنّ جزء الهيئة المشبّهة هو الميّت لأنّ المشبّه والمشبّه به سواء في الحالة الأصليّة وهي حالة كون الفريقين مشركين. ولفظ مثَل بمعنى حالة. ونفيُ المشابهة هنا معناه نفي المساواة، ونفي المساواة كناية عن تفضيل إحدى الحالتين على الأخرى تفضيلاً لا يلتبس، فذلك معنى نفي المشابهة كقولهقل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظّلمات والنّور } الرعد 16 ــــ وقوله ــــأفمَن كان مؤمناً كَمَن كان فاسقاً لا يستوون } السجدة 18. والكاف في قوله { كمن مثله في الظلمات } كاف التّشبيه، وهو تشبيه منفي بالاستفهام الإنكاري. والكلام جار على طريقة تمثيل حال من أسْلَم وتخلَّص من الشرك بحال من كان ميّتا فأُحْيِي، وتمثيللِ حال من هو باق في الشرك بحال ميت باق في قبره. فتضمّنت جملة { أو من كان ميتاً } إلى آخرها تمثيل الحالة الأولى، وجملة { كمن مثله في الظلمات } الخ تمثيلَ الحالة الثّانية، فهما حالتان مشبّهتان، وحالتان مشبَّهٌ بهما، وحصل بذكر كاف التّشبيه وهمزة الاستفهام الإنكاري أنّ معنى الكلام نفي المشابهة بين من أسلم وبين من بَقي في الشرك. كما حصل من مجموع الجملتين أنّ في نظم الكلام تشبيهين مركَّبين. ولكنّ وجودَ كاف التّشبيه في قوله { كمن مثله } مع عدم التّصريح بذكر المشبَّهَيْن في التّركيبين أثارَا شُبهة في اعتبار هذين التّشبيهين أهو من قبيل التّشبيه التّمثيلي، أم من قبيل الاستعارة التّمثيلية فنحا القطب الرّازي في «شرح الكشاف» القبيلَ الأول، ونحا التفتزاني القبيلَ الثّاني، والأظهر ما نحاه التفتزاني أنَّهما استعارتان تمثيليتان، وأمّا كاف التّشبيه فهو متوجّه إلى المشابهة المنفيّة في مجموع الجملتين لا إلى مشابهة الحالين بالحالين، فمورد كاف التّشبيه غير مورد تمثيل الحالين.

السابقالتالي
2