الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَإِذْ جَعَلْنَا ٱلْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَآ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَٱلْعَاكِفِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ }

{ وَإِذْ جَعَلْنَا ٱلْبَيْتَ } أي: الذي بناه إبراهيم بأم القرى. وهو اسم غالب للكعبة، كالنجم للثريا { مَثَابَةً لِّلنَّاسِ } مباءة مرجعاً للحجاج والعمّار، يتفرقون عنه ثم يتوبون إليه، ومثابة مفعلة، من " الثوب " وهو الرجوع ترامياً إليه بالكلية، وسر هذا التفضل ظاهر في انجذاب الأفئدة وهَوَى القلوب وانعطافها ومحبتها له، فجذبه للقلوب أعظم من جذب المغناطيس للحديد، فهو الأولى بقول القائل:
محاسنه هيولي كل حسن   ومعناطيس أفئدة الرجال
فهم يثوبون إليه على تعاقب الأعوام من جميع الأقطار، ولا يقضون منه وطراً. بل كلما ازدادوا له زيارة، ازدادوا له اشتياقاً.
لا يرجع الطرف عنها حين يبصرها   حتى يعود إليها الطرف مشتاقاً
فلله كم لها من قتيل وسليب وجريح! وكم أنفق في حبها من الأموال والأرواح! ورضى المحب بمفارقة فلذ الأكباد والأهل والأحباب والأوطان، مقدماً بين يديه أنواع المخاوف والمتالف والمعاطب والمشاق، وهو يستلذ ذلك كله ويستطيبه!

ذكر هذه الشذرة الإمام ابن القيم في أوائل زاد المعاد.

{ وَأَمْناً } موضع أمن. كقوله:حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ ٱلنَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ } [العنكبوت: 67] وكقوله:وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } [آل عمران: 97] وقد كانوا في الجاهلية يتخطف الناس من حولهم وهم آمنون لا يسبون. وكان الرجل يلقى قاتل أبيه أو أخيه فلا يعرض له، وفي هذا بيان شرف البيت من كونه محلا تشتاق إليه الأرواح ولا تقضي منه وطراً، ولو ترددت إليه كل عام، استجابة من الله تعالى لدعاء خليله في قوله:فَٱجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ ٱلنَّاسِ تَهْوِىۤ إِلَيْهِمْ } [إبراهيم: 37] إلى أن قال:رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَآءِ } [إبراهيم: 40] ومن كونه مأمنا لمن دخله. كما بيّنا.

وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة: " إن هذا بلد حرّمه الله يوم خلق السماوات والأرض، وهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قلبي، ولم يحل لي إلا ساعةً من نهار " الحديث. وقوله تعالى: { وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } قرئ بكسر الخاء، أمراً معترضاً بين الجملتين الخبرتين أو بتقدير: وقلنا اتخذوا. وقرئ بفتح الخاء ماضياً معطوفاً على { جَعَلْنَا } ، أي: واتخذوه مصلى ومقام إبراهيم هو الحرم كله، عن مجاهد وعنه: هو جمع ومزدلفة ومنى ومكة. ويقال: هو مقامه الذي هو في المسجد الحرام. فقد قال قتادة: إنما أمروا أن يصلُوا عنده ولم يؤمروا بمسحه، ولقد تكلفت الأمم شيئاً مما تكلفته الأمم قبلها.

قال الراغب الأصفهاني: والأولى أنه الحرم كله، فما من موضع ذكروه إلا هو مصلي أو مدعى أو موضع صلاة.

أقول: كان الأصل في الآية: وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً ومصليً. إلا أنه عَدَلَ إلى هذا الأسلوب الحكيم دون ذاك، ودون أن يقال مثلاً: واتخذوا منه مصلى - لوجوه: أحدها: التنويه بأمر الصلاة فيه والتعظيم لشأنها حيث أفرد، للعناية بها، جملة على حدة.

السابقالتالي
2 3