الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَٰهِيمَ حَنِيفاً وَٱتَّخَذَ ٱللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً }

لما شرط في حُصُول النَّجاة والفَوْزِ بالجنَّة كون الإنْسَان مُؤمِناً، شَرَح هَهُنَا الإيمَان، وبَيَّن فَضْلَه من وَجْهَين:

أحدهما: أنَّه الدِّين المشتمل على العُبُودِيَّة والانْقِيَاد لله - تعالى -.

والثاني: أنه دينُ إبْرَاهيم - عليه السَّلام -، وكل واحدٍ من هَذَيْن الوَجْهَيْن سَبَبٌ مستقِلٌّ في التَّرْغِيب في دِينِ الإسْلاَم.

أما الأوّل: فإن دِين الإسْلام مَبْنيٌّ على الاعْتِقَاد والعَمَل.

أما الاعتقاد: فإليه الإشارَة بقوله: { أَسْلَمَ وَجْهَهُ للهِ } لأن الإسْلام هو الانْقِيَاد، والاسْتِسْلام، والخُضُوعُ، وذكر الوَجْه؛ لأنه أحسن الأعْضَاء الظَّاهِرَة، فإذا عَرَفَ ربه بِقلبه، وأقَرَّ بِرُبُوبِيَّتِهِ، وبعبُودِيَّة نفسه، فقد أسْلَم وجهه للَّه.

وأمَّا العَمَل فإليه الإشَارةُ بقوله: " وَهُوَ مُحْسنٌ " فيدخل فيه فِعْلُ الحِسَنَات وتَرْكُ السَّيِّئَات، فاحتوت هذه اللَّفْظَة على جَمِيع الأغْرَاض، وفيها تَنْبِيهٌ على فَسَادِ طَريقَةِ من اسْتَعان بغير اللَّهِ؛ فإن المُشْرِكِين يستعينُونَ بالأصْنَامِ، ويَقُولُون: هؤلاء شُفَعَاؤُنَا عِنْد اللَّه، والدهرية والطَّبِيعيُّون يَسْتعِينُونَ بالأفْلاكِ، [والكَواكِبِ]، والطبائع، وغيرها، واليَهُود يَسْتعِينُون في دَفْع عِقَاب الآخرة عَنْهم بكونِهِم من أوْلاَدِ الأنْبِيَاء، والنَّصارى يَقُولون: ثَالِثُ ثَلاَثَة، وأما المُعْتَزِلَة: فهم في الحَقِيقَةِ ما أسْلَمَت وَجُوهُهم للَّه؛ لأنهم يَرون [أنَّ] الطاعة المُوجِبَة لِثَوَابِهِم من أنْفُسِهِم، والمَعْصِية الموجِبَة لِعِقَابِهم من أنْفُسِهم، فهم في الحَقِيقَة لا يَرْجُون إلا أنْفُسَهُم، ولا يَخَافُون إلا أنْفُسَهم، وأهل السُّنَّة: فَوَّضُوا التَّدْبِير، والتَّكْوِين والخَلْق، والإبْدَاع إلى اللَّه - تعالى -، واعتَقَدُوا أن لا مُوجِدَ ولا مُؤثِّر إلا اللَّه [تعالى] فهم الذِين أسْلَمُوا وجوههم للَّه.

وأما الوَجْه الثَّاني: وهو أنَّ محمَّداً - عليه الصلاة والسلام - إنما دَعَى الخَلْق إلى دين إبْرَاهِيم -[عليه الصلاة والسلام -، وإبراهيم - عليه الصلاة والسلام -] إنَّما كان يَدْعُو إلى اللَّه - تعالى -، لا إلى [عِبَادة] فَلَكٍ ولا طاعة كَوْكَب، ولا سُجُود لِصَنَمٍ، ولا اسْتِعَانَة بطبيعة؛ بل كانت دَعْوَتُه إلى اللَّه - تعالى - كما قال:إِنِّي بَرِيۤءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ } [الأنعام: 78] ودعوة مُحَّمد - عليه الصلاة والسلام - كانت قَرِيبَة من شَرْع إبْرَاهيم - عليه السلام - في الخِتَان، وفي الأعْمَال المُتَعَلِّقَة بالكَعْبَة؛ كالصَّلاة إليها، والطَّوَاف [والسَّعْي] والرَّمْي، والوُقُوف، والحَلْق، والكَلِمَات العَشْر المَذْكُورة في قوله:وَإِذِ ٱبْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ } [البقرة: 124].

وإذا ثبت أنَّ شَرْع مُحمد - عليه الصلاة والسلام - كان قَريباً من شَرْع إبراهيم [ثم إنَّ شَرْع إبْرَاهِيم] مقبولٌ عند الكُلِّ لأن العَرَب لا يَفْتَخرُون بشيءٍ كافتخارهم بالانْتِساب إلى إبْرَاهيم - [عليه الصلاة والسلام] -، وأما اليَهُود والنَّصارى فلا شَكَّ في كَوْنِهِم مُفْتَخِرين بِهِ، وإذا ثَبَت هذا، لَزِم أن يكون شَرْع مُحمَّد -[صلى الله عليه وسلم] - مَقْبُولاً عند الكُلِّ.

قوله: { مِّمَّنْ أَسْلَمَ }: متعلِّقٌ بـ " أحْسَنُ " فهي " مِنْ " الجَارَّة للمَفْضُول، و " لله " متعلِّقٌ بـ " أسْلَم " ، وأجَازَ أبُو البقاء أن يَتَعَلَّق بَمَحْذُوف على أنَّه حَالٌ من " وَجْهه " وفيه نظرٌ لا يَخْفَى، " وهو مُحْسِنٌ " ، حالٌ من فَاعِل " أسْلَم ".

السابقالتالي
2 3 4