الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ لَهُمْ دَارُ ٱلسَّلَٰمِ عِندَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }

الضّمير في { لهم دار السلام } عائد إلىقوم يذّكَّرون } الأنعام 126. والجملة إمّا مستأنفة استئنافاً بيانياً لأنّ الثّناء عليهم بأنّهم فُصّلت لهم الآيات ويتذكّرون بها يثير سؤال مَن يسأل عن أثر تبيين الآيَات لهم وتذكُّرهم بها، فقيل { لهم دار السلام }. وإمّا صفةلقوم يذّكّرون } الأنعام 126. وتقديم المجرور لإفادة الاختصاص للقوم الذين يذكّرون لا لغيرهم. والدّارُ مكان الحلول والإقامة، ترادف أو تقارب المحلّ من الحُلول، وهو مؤنّث تقديراً فيصغَّر على دويرة. والدّار مشتقّة من فعل دار يدور لكثرة دوران أهلها، ويقال لها دارة، ولكن المشهور في الدارة أنّها الأرض الواسعة بين جبال. والسّلام الأمان، والمراد به هنا الأمان الكامل الّذي لا يعتري صاحِبه شيء ممّا يُخاف من الموجودات جواهرها وأعراضها، فيجوز أن يراد بدار السّلام الجنّة سمّيت دار السّلام لأنّ السّلامة الحقّ فيها، لأنَّها قرار أمن من كلّ مكروه للنّفس، فتمحّضت للنَّعيم الملائم، وقيل السّلام، اسم من أسماء الله تعالى، أي دار الله تعظيماً لها كما يقال للكعبة بيت الله، ويجوز أن يراد مكانة الأمان عند الله، أي حالة الأمان من غضبه وعذابه، كقول النّابغة
كم قد أحلّ بدار الفقر بعد غنىً عمرو وكم راش عمرو بعد إقتار   
و { عند } مستعارة للقرب الاعتباري، أريد به تشريف الرتبة كما دلّ عليه قوله عَقِبه { وهو وليّهم } ، ويجوز أن تكون مستعارة للحفظ لأنّ الشيء النّفيس يُجعل في مكان قريب من صاحبه ليحفظه، فيكون المعنى تحقيق ذلك لهم، وأنَّه وعد كالشّيء المحفوظ المدّخر، كما يقال إن فعلت كذا فلك عندي كذا تحقيقاً للوعد. والعدول عن إضافة { عند } لضمير المتكلّم إلى إضافته للاسم الظاهر لقصد تشريفهم بأنّ هذه عطيّة مَن هو مولاهم. فهي مناسبة لفضله وبرّه بهم ورضاه عنهم كعكسه المتقدّم آنفاً في قوله تعالىسيصيب الذين أجرموا صغار عند الله } الأنعام 124. وعطف على جملة { لهم دار السلام } جملة { وهو وليهم } تعميماً لولاية الله إيَّاهم في جميع شؤونهم، لأنَّها من تمام المنّة. والوليّ يطلق بمعنى النّاصر وبمعنى الموالي. وقوله { بما كانوا يعملون } يجوز أن يتعلّق بما في معنى الخبر في قوله { لهم دار السلام } ، من مفهوم الفعل، أي ثبت لهم ذلك بما كانوا يعملون، فتكون الباء سببيّة، أي بسبب أعمالهم الحاصلة بالإسلام، أو الباء للعوض أي لهم ذلك جَزاء بأعمالهم، وتكون جملة { وهو وليهم } معترضة بين الخبر ومتعلِّقه، ويجوز أن يَكون { بما كانوا يعملون } متعلِّقا بــــ { وليّهم } أي وهو ناصرهم، والباء للسّببيّه أي بسبب أعمالهم تولاّهم، أو الباء للملابسة، ويكون { بما كانوا يعملون } مراداً به جزاء أعمالهم، على حذف مضاف دلّ عليه السّياق. وتعريف المسند بالإضافة في قوله { وليهم } أفاد الإعلام بأنّ الله وليّ القوم المتذكّرين، ليعلموا عظم هذه المنّة فيشكروها، وليعلم المشركون ذلك فيغيظهم.

السابقالتالي
2