الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَـٰكِنْ حَقَّ ٱلْقَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ }

قال محمد بن كعب القُرَظيّ: لما قالوا: «رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ» ردّ عليهم بقوله: { وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا } يقول: لو شئت لهديت الناس جميعاً فلم يختلف منهم أحد { وَلَـٰكِنْ حَقَّ ٱلْقَوْلُ مِنِّي } الآية ذكره ابن المبارك في «رقائقه» في حديث طويل. وقد ذكرناه في «التذكرة». النحاس: «وَلَوْ شِئْنَا لأتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا» في معناه قولان: أحدهما: أنه في الدنيا. والآخر: أن سياق الكلام يدلّ على أنه في الآخرة أي لو شئنا لرددناهم إلى الدنيا والمحنة كما سألوا: { وَلَـٰكِنْ حَقَّ ٱلْقَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ } أي حق القول مني لأعذّبن من عصاني بنار جهنم. وعلم الله تبارك وتعالى أنه لو ردهم لعادوا كما قال تعالى: { وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ }. وهذه الهداية معناها خلق المعرفة في القلب. وتأويل المعتزلة: ولو شئنا لأكرهناهم على الهداية بإظهار الآيات الهائلة، لكن لا يحسن منه فعله لأنه ينقض الغرض المُجْرَى بالتكليف إليه وهو الثواب الذي لا يُستحق إلا بما يفعله المكلف باختياره. وقالت الإمامية في تأويلها: إنه يجوز أن يريد هداها إلى طريق الجنة في الآخرة ولم يعاقب أحداً، لكن حق القول منه أنه يملأ جهنم، فلا يجب على الله تعالى عندنا هداية الكل إليها قالوا: بل الواجب هداية المعصومين، فأما من له ذنب فجائز هدايته إلى النار جزاء على أفعاله. وفي جواز ذلك منع لقطعهم على أن المراد هداها إلى الإيمان. وقد تكلم العلماء عليهم في هذين التأويلين بما فيه كفاية في أصول الدين. وأقرب مالهم في الجواب أن يقال: فقد بطل عندنا وعندكم أن يهديهم الله سبحانه على طريق الإلجاء والإجبار والإكراه، فصار يؤدّي ذلك إلى مذهب الجبرية، وهو مذهب رَذْل عندنا وعندكم فلم يبق إلا أن المهتدين من المؤمنين إنما هداهم الله تعالى إلى الإيمان والطاعة على طريق الاختيار حتى يصح التكليف فمن شاء آمن وأطاع اختياراً لا جبراً قال الله تعالى:لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ } [التكوير: 28]، وقال:فَمَن شَآءَ ٱتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلاً } [المزمل: 19]. ثم عقّب هاتين الآيتين بقوله تعالى: { وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ }. فوقع إيمان المؤمنين بمشيئتهم، ونفى أن يشاؤوا إلا أن يشاء الله ولهذا فرّطت المجبرة لما رأوا أن هدايتهم إلى الإيمان معذوق بمشيئة الله تعالى، فقالوا: الخلق مجبورون في طاعتهم كلها، التفاتاً إلى قوله: { وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ }. وفرّطت القدرية لما رأوا أن هدايتهم إلى الإيمان معذوق بمشيئة العباد، فقالوا: الخلق خالقون لأفعالهم، التفاتاً منهم إلى قوله تعالى: { لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ }. ومذهبنا هو الاقتصاد في الاعتقاد وهو مذهب بين مذهبي المجبرة والقدرية وخير الأمور أوساطها.

السابقالتالي
2