قوله: { يَٰزَكَرِيَّآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ }. اختلفُوا في المنادي، فالأكثرون على أنَّه هو الله تعالى؛ لأنَّ زكريَّا إنَّما كان يخاطبُ الله تعالى، ويسأله بقوله:{ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ ٱلْعَظْمُ مِنِّي } [مريم:4]، وبقوله:{ وَلَمْ أَكُن بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيًّا } [مريم:4] وبقوله: " فهب لي " ، وبقوله بعده: { رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ } ، فوجب أن يكون هذا النداءُ من الله تعالى، وإلاّ لفسد [المعنى و] النَّظْم، وقيل: هذا النداءُ من الملكِ؛ لقوله:{ فَنَادَتْهُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي ٱلْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـىٰ } [آل عمران: 39]. وأيضاً: فإنه لمَّا قال: { وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ ٱلْكِبَرِ عِتِيًّا قَالَ كَذٰلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ } [مريم: 8، 9]. وهذا لا يجوزُ أن يكونُ كلام الله؛ فوجب أن يكون كلام الملكِ. ويمكنُ أن يجاب بأنه يحتملُ أنَّه يحصل النداءان: نداءُ الله تعالى، ونداءُ الملائكة. ويمكنُ أن يكون قوله: { كَذَٰلِكَ قَالَ رَبُّكَ } من كلام الله تعالى، كما سيأتي بيانه - إن شاء الله تعالى -. فصل [في] الكلام اختصار، تقديره: استجاب الله دعاءهُ، فقال: { يَٰزَكَرِيَّآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ }: بولدٍ، ويقال: زكريَّاء " بالمد والقصر " ، ويقال: زكرَى أيضاً، نقله ابن كثيرٍ. فإن قيل: كان دعاؤهُ بإذنٍ، فما معنى البشارة؟ وإن كان بغير إذنٍ؛ فلماذا أقدم عليه؟. فالجوابُ: يجوز أن يسأل بغير إذن، ويحتمل أنَّه أذن له فيه، ولم يعلمْ وقته، فبُشِّر به. قوله: " يَحْيَى ": فيه قولان: أحدهما: أنه اسمٌ أعجميٌّ، لا اشتقاق له، وهذا هو الظاهرُ، ومنعهُ من الصَّرف؛ للعلميَّة والعجمةِ، وقيل: بل هو منقولٌ من الفعلِ المضارعِ، كما سمَّوا بـ " يَعْمُرَ " و " يعيشَ " و " يَمُوتَ " وهو يموت بنُ المُزرَّع. والجملة من قوله: " اسْمُهُ يَحْيى " في محلِّ جرِّ صفة لـ " غُلامٍ " وكذلك " لم نجعلْ " و " سَمِيًّا " كقوله: " رَضيًّا " إعراباً وتصريفاً، لأنَّه من السُّمُوِّ، وفيه دلالةٌ لقول البصريين: أن الاسم من السموِّ، ولو كان من الوسم، لقيل: وسيماً. فصل قال ابن عباسٍ، والحسنُ، وسعيدُ بنُ جبيرٍ، وعكرمةُ، وقتادةُ: إنَّه لم يسمَّ أحدٌ قبله بهذا الاسم. وقال سعيدُ بنُ جبيرٍ، وعطاء: لم نجعل له شبهاً ومثلاً؛ لقوله تعالى:{ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا } [مريم: 65] أي: مثلاً. والمعنى: أنه لم يكن له مثلٌ؛ لأنَّهُ لم يعصِ، ولم يهُمَّ بمعصية قط؛ كأنَّه جواب لقوله{ وَٱجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا } [مريم:6] فقيل له: إنَّا نُبشِّرُكَ بغلامٍ، لم نجعلْ له شبيهاً في الدِّين، ومنْ كان كذلك، كان في غايةِ الرضا. وفي هذا نظرٌ؛ لأنَّه يقتضي تفضيلُه على الأنبياءِ قبله؛ كآدَمَ، ونوحٍ، وإبراهيم، وموسى، [وعيسى]؛ وذلك باطلٌ. وقيل: لم يكن له مثلٌ في أمر النِّساء؛ لأنَّه كان سيِّداً وحصوراً.