الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذٰلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ }

قوله تعالى: { يُدْخِلْهُ }: حَمَلَ على لفظ " مَنْ " فَأْفْرَدَ الضميرَ في قوله: " يُطِعْ " و " يُدْخِلْه " ، وعلى معناها فجمع في قوله " خالدين ". وهذا أحسنُ الحَمْلين، أعني الحملَ على اللفظ ثم المعنى، ويجوزُ العكس وإن كان ابن عطية قد منعه، وليس بشيء لثبوتِه عن العرب، وقد تقدَّم ذلك غيرَ مرةٍ وفيه تفصيلٌ، وله شروط مذكورةٌ في كتب النحو.

وفي نصبِ " خالدين " وجهان، أظهرهما: أنه حال من الضمير المنصوبِ في " يُدْخِلُه " ، ولا يَضُرُّ تغايُرُ الحالِ وصاحِبها من حيث كانت جمعاً وصاحبُها مفرداً لِما تقدَّم من اعتبار اللفظ والمعنى، وهي مُقَدَّرة لأنَّ الخلود بعد الدخولِ.

والثاني: أن يكونَ نعتاً لـ " جنات " من باب ما جَرَى على موصوفِه لفظاً وهو لغيرِه معنىً نحو: مررت برجلٍ قائمةٍ أمه، وبامرأة حسنٍ غلامُها، فـ " قائمة " و " حسنٍ " وإن كانا جارِيَيْنِ على ما قبلهما لفظاً فهما لِما بعدَهما معنىً، أجاز ذلك في الآية الكريمة الزجاج وتبعه التبريزي، إلاَّ أنّ الصفة إذا جَرَتْ على غير مَنْ هي له وجب/ إبرازُ الضمير مطلقاً على مذهب البصريين: أَلْبس أو لم يُلْبِس. وأما الكوفيون فيفصِّلون فيقولون: إذا جرت الصفة على غير مَنْ هي له: فإن أَلْبس وجب إبراز الضمير كما هو مذهب البصريين نحو: " زيدٌ عمروٌ ضاربُه هو " إذا كان الضرب واقعاً من زيد على عمرو وإن لم يُلْبِس لم يَجِبِ الإِبرازُ نحو: " زيدٌ هندٌ ضاربُها " ، إذا تقرَّر هذا فمذهب الزجاج في الآية إنما يتمشَّى على رأي الكوفيين، وهو مذهب حسن.

واستدلَّ مَنْ نَصَر مذهبَ الكوفيين بالسماع، فمنه قراءةُ مَنْ قرأ: { إِلَىٰ طَعَامٍ غَيْرِ نَاظِرِينَ إِنَاهُ } [الأحزاب: 53] بجر " غير " مع عدمِ بروزِ الضمير، ولو أَبْرزه لقال: " غيرِ ناظرين إناه أنتم " ومنه قولُ الآخَر:
1556ـ قَوْمي ذُرا المجدِ بانُوها وقد عَلِمَتْ     بكُنْهِ ذلك عدنانٌ وقَحْطانُ
ولم يقل: بانُوها هم، وقد خَرَّج بعضُهم البيت على حذف مبتدأ تقديره: هم بانوها، فـ " قومي " مبتدأ أول " و " ذرا " مبتدأ ثان، و " هم " مبتدأ ثالث، و " بانوها " خبر الثالث، والثالث وخبره خبر الثاني، والثاني وخبره خبر الأول.

وقد منع الزمخشري كونَ " خالدين " و " خالداً " صفةً لـ " جنات " و " ناراً " بعدم بروز الضمير فقال: " فإنْ قلت: هل يجوز أن يكونا صفتين لـ " جنات " و " ناراً "؟ قتل: لا، لأنهما جريا على غير مَنْ هما له، فلا بد من الضمير في قولك: " خالدين هم فيها، وخالداً هو فيها ".

السابقالتالي
2