الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ ءَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ وَتَابَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَاةَ وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَٱللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }

{ ءَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ } أي: أخِفتم، من تقديم الصدقات، الفاقة والفقر؟ توبيخ بأن مثله لا ينبغي أن يشفق منه، للزوم الخلف والإنفاق، لزوم الظل للشاخص، بوعد الله الصدق. { فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ } أي: ما ندبتم إليه من تقديم الصدقة، وشقّ عليكم، { وَتَابَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمْ } بأن رخَّص لكم أن لا تفعلوا، رفعاً للحرج حسبما أشفقتم، { فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَاةَ وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } أي: فلا تفرّطوا في الصلاة والزكاة وسائر الطاعات، فإن ذلك يكسبكم ملكة الخير والفضيلة. { وَٱللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } أي: فيجزيكم بحسبه.

تنبيه

في (الإكليل): قوله تعالى:إِذَا نَاجَيْتُمُ ٱلرَّسُولَ } [المجادلة: 12] الآية منسوخة بالتي بعدها، وفيه دليل على جواز النسخ بلا بدل، ووقوعه، خلافاً لمن أبى ذلك. انتهى.

والظاهر أن مستند شهرة النسخ ما رواه ابن جرير عن مجاهد قال: قال عليّ رضي الله عنه: إن في كتاب الله عز وجل لآية ما عمل بها أحد قبلي، ولا يعمل بها أحد بعدييٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا نَاجَيْتُمُ... } [المجادلة: 12] إلخ قال: فرضت، ثم نسخت. وعنه أيضاً قال: نهوا عن مناجاة النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى يتصدقوا، فلم يناجه إلا عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، قدم ديناراً فتصدق به، ثم أنزلت الرخصة في ذلك.

وعن قتادة أنها منسوخة، ما كانت إلا ساعة من نهار.

وعنه أيضاً قال: سأل الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أخفوه بالمسألة فوعظهم الله بهذه الآية، وكان الرجل تكون له الحاجة إلى نبيّ الله صلى الله عليه وسلم فلا يستطيع أن يقضيها حتى يقدم بين يديه صدقة، فاشتد ذلك عليهم، فأنزل الله الرخصة بعد ذلكفَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [المجادلة: 12].

وعن الحسن وعكرمة قالا:إِذَا نَاجَيْتُمُ ٱلرَّسُولَ... } [المجادلة: 12] الآية، نسختها التي بعدها { ءَأَشْفَقْتُمْ... }. الآية.

هذه الآثار وأمثالها هي مستند مدعي النسخ، وقوفاً مع ظاهرها. وقد أسلفنا في مقدمة التفسير، ومواضع أخرى؛ أن النسخ في كلام السلف أعم منه باصطلاح الخلف، كما أن المراد من سبب النزول أعم مما يتبادر إليه الفهم. ومنه قول قتادة هنا: فأنزل الله الرخصة بعد ذلك. فإن مراده إبانة أن الأمر ليس بعزيمة في الآية الثانية، لا أن نزولها كان متراخياً عن الأولى، فإن ذلك مستحيل على رونق نظمها الكريم. والأصل في الآي المقررة لحكمٍ ما، هو اتصال جملها، وانتظام عقدها، إذ به يكمل سحر بلاغتها وبديع بيانها، وتمام فقهها.

والذين ذهبوا إلى عدم وقوع النسخ في التنزيل، لهم في الآية وجوه:

أحدها: قول أبي مسلم: إن المنافقين كانوا يمتنعون من بذل الصدقات، وأن قوماً من المنافقين تركوا النفاق، وآمنوا ظاهراً وباطناً إيماناً حقيقياً، فأراد الله تعالى أن يميزهم عن المنافقين، فأمر بتقديم الصدقة على النجوى، ليتميز هؤلاء الذين آمنوا إيماناً حقيقياً عمن بقي على نفاقه الأصليّ.

السابقالتالي
2