الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ قُلْ يَٰقَوْمِ ٱعْمَلُواْ عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ إِنَّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَٰقِبَةُ ٱلدَّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ٱلظَّٰلِمُونَ }

استئناف ابتدائي بعد قولهإنَّ ما توعدون لآتٍ } الأنعام 134 فإنّ المقصود الأوّل منه هو وعيد المشركين، كما مرّ، فأعقبه بما تمحّض لوعيدهم وهو الأمر المستعمل في الإنذار والتّهديد، لِيُمْلِيَ لَهُمْ في ضلالهم إملاء يشعر، في متعارف التّخاطُب، بأنّ المأمور به ممّا يزيد المأمور استحقاقاً للعقوبة، واقتراباً منها. أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يُناديهم ويُهَدّدهم. وأمر أن يبتدىء خطابهم بالنّداء للاهتمام بما سيقال لهم، لأنّ النّداء يسترعي إسماع المنادَيْن، وكان المنادي عنوانَ القوم لما يشعر به من أنّه قد رقّ لحالهم حين توعدهم بقولهإنَّ ما توعدون لآتٍ وما أنتم بمعجزين } الأنعام 134 لأنّ الشأن أنّه يحبّ لقومه ما يحبّ لنفسه. والنّداء للقوم المعاندين بقرينة المقام، الدالّ على أنّ الأمر للتّهديد، وأنّ عملهم مخالف لعمله، لقوله { اعملوا } ــــ مع قوله ــــ { إني عامل }. فالأمر في قوله { اعملوا } للتسوية والتخلية لإظهار اليأس من امتثالهم للنّصح بحيث يغيِّر ناصِحهم نُصحهم إلى الإطلاق لهم فيما يحبّون أن يفعلوا، كقوله تعالىاعملوا ما شئتم } فصلت 40 وهذا الاستعمال استعارة إذ يشبَّه المغضوب عليه المأيوس من ارعوائهِ بالمأمور بأن يَفعل ما كان يُنهى عنه، فكأنّ ذلك المنهي صار واجباً، وهذا تهكّم. والمكانة المَكان، جاء على التّأنيث مثل ما جاء المقامة للمقام، والدارةُ اسماً للدار، والماءة للماءِ الذّي يُنزل حوله، يقال أهل الماء وأهل المَاءة. والمكانة هنا مستعارة للحالة الّتي تلبّس بها المرء، تشبَّه الحالة في إحاطتها وتلبّس صاحبها بها بالمكان الّذي يحوي الشّيء، كما تقدّم اطلاق الدّار آنفاً في قوله تعالىلهم دار السّلام } الأنعام 127، أو تكون المكانة كناية عن الحالة لأنّ أحوال المرء تظهر في مكانه ومقرّه، فلذلك يقال «يا فلان على مَكانتك» أي أثبت على ما أنت عليه لا تنحرفْ عنه. ومفعول { اعملوا } محذوف لأنّ الفعل نزّل منزلة اللاّزم، أي اعملوا عملكم المألوف الّذي هو دأبكم، وهو الإعراض والتّكذيب بالحقّ. و { عَلَى } مستعملة في التمكّن على وجه الاستعارة التّبعيّة، وهي مناسبة لاستعارة المكانة للحالة. لأنّ العلاوة تناسب المكان، فهي ترشيح للاستعارة، مستعار من ملائم المشبه به لملائم المشبه. والمعنى الزموا حالكم فلا مَطمع لي في اتِّباعكم. وقرأ الجمهور { على مكانتكم } ــــ بالإفراد ــــ. وقرأه أبو بكر عن عاصم { مَكانَاتِكم } جمعَ مكانة. والجمع باعتبار جمع المضاف إليه. وجملة { إني عامل } تعليل لمفاد التّسوية من الأمر في قوله { اعملوا } أي لا يضرّني تصميمكم على ما أنتم عليه، لكنّي مستمرّ على عملي، أي أنِّي غير تارك لما أنا عليه من الإيمان والدّعاء إلى الله. وحذف متعلّق { إني عامل } للتّعميم مع الاختصار، وسيأتي تفصيله في نظيره من سورة الزمر. ورُتِّب على عملهم وعَمَلِه الإنذارُ بالوعيد { فسوف تعلمون } بفاء التّفريع للدّلالة على أنّ هذا الوعيد متفرّع على ذلك التّهديد.

السابقالتالي
2 3