الرئيسية - التفاسير


* تفسير روح المعاني/ الالوسي (ت 1270 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَٱسْتَوَىٰ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ }

{ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ } أي المبلغ الذي لا يزيد عليه نشؤه، وقوله تعالى: { وَٱسْتَوَىٰ } أي كمل وتم، تأكيد وتفسير لما قبله كذا قيل: واختلف في زمان بلوغ الأشد والاستواء فأخرج ابن أبـي الدنيا من طريق الكلبـي عن أبـي صالح عن ابن عباس أنه قال الأشد ما بين الثماني عشرة إلى الثلاثين والاستواء ما بين الثلاثين إلى الأربعين فإذا زاد على الأربعين أخذ في النقصان، وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبـي حاتم عن مجاهد أنه قال الأشد ثلاث وثلاثون سنة والاستواء أربعون سنة وهي رواية عن ابن عباس أيضاً وروي نحوه عن قتادة وقال الزجاج مرة بلوغ الأشد من نحو سبع عشرة سنة إلى الأربعين وأخرى هو ما بين الثلاثين إلى الأربعين واختاره بعضهم هنا وعلل بأن ذلك لموافقته لقوله تعالى:حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً } [الأحقاف: 15] لأنه يشعر بأنه منته إلى الأربعين وهي سن الوقوف فينبغي أن يكون مبدؤه مبدأه ولا يخلو عن شيء والحق أن بلوغ الأشد في الأصل هو الانتهاء إلى حد القوة وذلك وقت انتهاء النمو وغايته وهذا مما يختلف باختلاف الأقاليم والأعصار والأحوال ولذا وقع له تفاسير في كتب اللغة والتفسير، ولعل الأولى - على ما قيل - أن يقال إن بلوغ الأشد عبارة عن بلوغ القدر الذي يتقوى فيه بدنه وقواه الجسمانية وينتهي فيه نموه المعتد به والاستواء اعتدال عقله وكماله ولا ينبغي تعيين وقت لذلك في حق موسى عليه السلام إلا بخبر يعول عليه لما سمعت من أن ذاك مما يختلف باختلاف الأقاليم والأعصار والأحوال، نعم اشتهر أن ذلك في الأغلب يكون في سن أربعين وعليه قول الشاعر:
إذا المرء وافى الأربعين ولم يكن   له دون ما يهوى حياء ولا ستر
فدعه ولا تنفس عليه الذي مضى   وإن جر أسباب الحياة له العمر
وفي قوله تعالى:حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً } [الأحقاف: 15] ما يستأنس به لذلك. وقد مر طرف من الكلام في الأشد في سورة يوسف فتذكر ولا تغفل.

ثم إن حاصل المعنى على ما قيل أخيراً: ولما قوي جسمه، واعتدل عقله { أتَيْنَاهُ حُكْمًا } أي نبوة على ما روي عن السدي أو علماً هو من خواص النبوة على ما تأول به بعضهم كلامه { وَعِلْماً } بالدين والشريعة. وفي «الكشاف» العلم التوراة والحكم السنة وحكمة الأنبياء عليهم السلام سنتهم. قال الله تعالى:وَٱذْكُـرْنَ مَا يُتْـلَىٰ فِى بُيُوتِكُـنَّ مِنْ ءايَـٰتِ ٱللَّهِ وَٱلْحِكْـمَةِ } [الأحزاب: 34] وقيل آتيناه سيرة الحكماء العلماء وسمتهم قبل البعث، فكان عليه السلام لا يفعل فعلاً يستجهل فيه اهـ، ورُجِّح ما قيل بأنه أوفق لنظم القصة مما تقدم، لأن استنباءه عليه السلام بعد وكز القبطي، والهجرة إلى مدين، ورجوعه منها، وإيتاؤه التوراة كان بعد إغراق فرعون، فهو بعد الوكز بكثير وبأن قوله تعالى: { وَكَذٰلِكَ } أي مثل ذلك الذي فعلناه بموسى وأمه عليهما السلام { نَجْزِى ٱلْمُحْسِنِينَ } على إحسانهم يأبـى حمل ما تقدم على النبوة لأنها لا تكون جزاء على العمل، ومن ذهب إلى الأول جعل هذا بياناً إجمالياً لإنجاز الوعد بجعله من المرسلين بعد رده لأمه، وما بعد تفصيل له، والعطف بالواو لا يقتضي الترتيب، وكون ما فعل بموسى وأمه عليهما السلام جزاء على العمل باعتبار التغليب.

السابقالتالي
2