الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ ٱلْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ ٱلأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ ٱلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلظَّالِمِينَ }

قوله تعالى: { قَرْحٌ }: قرأ الأخَوان وأبو بكر: " قُرْح " بضم القاف، وكذلك " القُرْح " معرَّفاً، والباقون بالفتح فيهما، فقيل: هما بمعنى واحد. ثم اختلف القائلون بهذا فقال بعضهم: " المرادُ بهما الجرحُ نفسه ". وقال بعضُهم: ـ منهم الأخفش ـ المرادُ بهما المصدرُ. يُقال قَرِحَ الجرحُ يَقْرَحُ قُرَحاً وقَرْحاً. قال امرؤ القيس:
1439ـ وبُدِّلْتُ قَرْحاً دامياً بعد صحةٍ     لعلَّ منايانا تَحَوَّلنَ أَبْؤُسَا
والفتحُ لغةُ الحجاز، والضمُّ لغةُ غيرِهم فهما كالضَّعْف والضُّعْف والكَرْه والكُرْه. وقال بعضُهم: " المفتوح: الجُرحُ، والمضموم: ألمه ".

وقرأ ابنُ السَّمَيْفَع بفتح القاف والراء وهي لغةٌ كالطَّرْد والطَّرَد. وقال أبو البقاء: هو مصدرُ قَرُحَ يَقْرُح إذا صار له قُرْحَة، وهو بمعنى دَمِي. وقرىء " قُرُح " بضمِّهما. قيل: وذلك على الإِتباع كاليُسْر واليُسُر والطُّنْب والطُّنُبِ.

وقرأ الأعمش: " إنْ تَمْسَسْكم " بالتاء من فوق، " قروحٌ " بصيغة الجمع، والتأنيث واضح. وأصلُ المادةِ الدلالةُ على الخُلوصِ ومنه: الماء القَراح أي: لا كُدروةَ فيه، قال:
1440ـ فساغَ لي الشرابُ وكنتُ قبلاً     أَكادُ أَغَصُّ بالماءِ القَراحِ
وأرضٌ قَرْحَة أي: خالصةُ الطين ومنه: قريحةُ الرجلِ لخالصِ طبعِهِ. وقال الراغب: " القَرْحُ: الأثَرُ من الجراحةِ، من شيءٍ يصيبُه من خارجٍ، والقُرْحُ ـ يعني بالضم ـ أثرُها مِنْ داخلٍ كالبَثْرةِ ونحوِها، يقال: قَرَحْتُه نحو: جَرَحْتُه. قال الشاعر:
1441ـ لا يُسْلِمُون قريحاً حَلَّ وسطُهُمُ     يومَ اللِّقاءِ ولا يُشْوُون مَنْ قَرَحُوا
أي: جرحوا: وقَرِح: خرج به قَرْحٌ، وقَرَحَ الله قلبَه وأقرحه ـ يعني: فَفَعَل وأفْعَل فيه بمعنى ـ وفَرَسٌ قارح: إذا أصابَه أثرٌ من ظهورِ نابِه، والأُنثى: قارحةٌ، وروضةٌ قَرْحاءُ إذا كان في وسطها نَوْرٌ، وذلك تشبيهٌ بالفرس القَرْحاءِ. والاقتراحُ: الابتداعُ والابتكارُ. ومنه قالوا: اقترح عليه فلانٌ كذا، واقترحْتُ بئراً: استخرجْتُ منها ماءً قَراحاً، والقريحَةُ في الأصل: المكانُ الذي يَجْتمع فيه الماءُ المُسْتَنْبَطُ، ومنه استُعِيرَتْ قريحةُ الإِنسانِ ".

قوله: { فَقَدْ مَسَّ ٱلْقَوْمَ قَرْحٌ } للنحويين في مثل هذا تأويلٌ وهو أَنْ يُقَدِّروا شيئاً مستقبلاً، لأنه لا يكونُ التعليقُ إلا في المستقبلِ، وقوله { فَقَدْ مَسَّ ٱلْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ } ماضٍ محقق، وذلك التأويلُ هو التبيين: فقد تبيَّن مسُّ القَرْحِ للقوم، وسيأتي له نظائر/ نحو:إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ } [يوسف: 26]وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ } [يوسف: 26]. وقال بعضُهم " وجوابُ الشرطِ محذوفٌ تقديرُه: " فتأسَّوا " ونحوُ ذلك. وقال الشيخ: " مَنْ جَعَلَ جوابَ الشرط " فقد مَسَّ " فهو ذاهِلٌ ". قلت: غالبُ النحاةِ جَعَلوه جواباً متأوِّلين له بما ذَكَرْتُ.

قوله: { وَتِلْكَ ٱلأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا } يجوزُ في " الأيام " أَنْ تكونَ خيراً لـ " تلك ". و " نُداوِلُها " جملةً حاليةٌ العاملُ فيها معنى اسم الإِشارة أي: أُشير إليها حالَ كونِها متداولةً.

السابقالتالي
2 3