الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا ٱلْقِبْلَةَ ٱلَّتِي كُنتَ عَلَيْهَآ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ ٱلرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ بِٱلنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ }

{ وَكَذَلِكَ } أي: كما هديناكم إلى قبلة هي أوسط القبل وأفضلها { جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً } أي: عدولاً، خياراً. وقوله تعالى: { لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً } تعليل للجعل المنوه به الذي تمت المنة به عليهم. واعلم أن أصل الشهود والشهادة الحضور مع المشاهدة. إما بالبصر أو بالبصيرة. قال الرازي: الشهادة والمشاهدة والشهود هو الرؤية، يقال شاهدت كذا إذا رأيته وأبصرته، ولما كان بين الإبصار بالعين وبين المعرفة بالقلب مناسبة شديدة، لا جرم قد تسمى المعرفة التي في القلب مشاهدة وشهوداً، والعارف بالشيء شاهداً ومشاهداً، ثم سميت الدلالة على الشيء شاهداً على الشيء لأنها هي التي بها صار الشاهد شاهداً. ولما كان المخبر عن الشيء والمبيّن لحاله جارياً مجرى الدليل على ذلك، سمى ذلك المخبر أيضاً شاهداً - وبالجملة، فكل من عرف حال شيء، وكشف عنه كان شاهداً عليه. انتهى.

والشهيد أصله الشاهد والمشاهد للشيء والمخبر عن علم حصل بمشاهدة بصرٍ أو بصيرة. وهو، بالمعنى الثالث، من النعوت الجليلة. ولذلك وصف به النبيون والسادة والأئمة. كما ترى في هذه الآية وفي آيةفَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَـٰؤُلاۤءِ شَهِيداً } [النساء: 41] وآيةوَٱدْعُواْ شُهَدَآءَكُم } [البقرة: 23].وَٱلشُّهَدَآءِ وَٱلصَّالِحِينَ } [النساء: 69] ثم إن في اللام في قوله تعالى: { لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ } وجهين: الأول: إنها لام الصيرورة والعاقبة. أي: فآل الأمر بهدايتكم وجعلكم وسطاً أن كنتم شهداء على الناس. وهم أهل الأديان الأخر. أي: بصراء على كفرهم بآيات الله وما غَيَّروا وَبدَّلوا وأشركوا وألحدوا، مما قص عليكم في الآيات قبل، حتى أحطتم به خبراً. فعرفتم حق دينهم من باطله، ووحيه من مخترعه. يعني: وإذا شهدتم ذلك منهم وأبصرتم فاشكروا مولاكم على ما أولاكم، وعافكم مما ابتلى به سواكم، حيث وفقكم للمنهج السَّويّ وهداكم للمهيع الرَّضِى، وكذلك صار الرسول عليكم شهيداً بأنكم عرفتم الحق من الباطل والهدى من الضلال والنور من الظلمات، بما بلغكم من وحيه وأراكم من آياته. فعظمت المنة لله عليكم إذ أصبحتم مهتدين بعد الضلالة، علماء بعد الجهالة. ففيه إشارة إلى تحذير المؤمنين من أن يزيغوا بعد الهدى، كما زاغ أولئك الذين نعى عليهم ضلالتهم، فتقوم عليهم الحجة كما قامت على أولئك.

الوجه الثاني: أن تكون اللام للتعليل، على أصلها. والمعنى: جعلناكم أمة خياراً لتكونوا شهداء على الناس، أي رقباء قُوَّاماً عليهم بدعائهم إلى الحق وإرشادهم إلى الهدى وإنذارهم مما هم فيه من الزيغ والضلال. كما كان الرسول شهيداً عليكم بقيامه عليكم بما بلغكم وأمركم ونهاكم وحذركم وأنذركم، فتكون الآية نظير آيةكُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ } [آل عمران: 110]، وربما آثر هذا المعنى من قال: خير ما فسر القرآن بالقرآن، لتماثل الآيتين بادئ بدء، فإن الوسط بمعنى الخيار وقد صرح به في قوله: { خَيْرَ أُمَّةٍ } وإلى هذا المعنى يشير قول مجاهد في الآية: لتكونوا شهداء لمحمد عليه السلام على الأمم اليهود والنصارى والمجوس: أي: شهداء على حقية رسالته، وذلك بالدعوة إليها والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو قطب الدعوة وروحها.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9