الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَىٰ طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِ فَمَنِ ٱضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }

فيه أربع مسائل: الأولى: قوله تعالى: { قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً } أعلم الله عز وجل في هذه الآية بما حرم. والمعنى: قل يا محمد لا أجد فيما أوحي إليّ محرّماً إلا هذه الأشياء، لا ما تحرمونه بشهوتكم. والآية مكية. ولم يكن في الشريعة في ذلك الوقت محرم غير هذه الأشياء، ثم نزلت سورة «المائدة» بالمدينة. وزيد في المحرمات كالمنخنِقة والْموْقُوذَة وَالْمُتَرَدِّيَةِ وَالنَّطِيحَة والخمر وغير ذلك. وحرّم رسول ٱلله صلى الله عليه وسلم بالمدينة أكل كلِّ ذي ناب من السباع وكلِّ ذي مِخْلب من الطير. وقد اختلف العلماء في حكم هذه الآية وتأويلها على أقوال: الأوّل: ما أشرنا إليه من أن هذه الآية مكية، وكلّ محرّم حرّمه رسول الله صلى الله عليه وسلم أو جاء في الكتاب مضموم إليها فهو زيادة حكم من الله عز وجل على لسان نبيه عليه السلام. على هذا أكثر أهل العلم من أهل النظر، والفقه والأثر. ونظيره نكاح المرأة على عمتها وعلى خالتها مع قوله:وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } [النساء: 24] وكحكمه باليمين مع الشاهد مع قوله:فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَٱمْرَأَتَانِ } [البقرة: 282] وقد تقدم. وقد قيل: إنها منسوخة بقوله عليه السلام: " أكْلُ كلِّ ذي ناب من السباع حرام " أخرجه مالك، وهو حديث صحيح. وقيل: الآية مُحكَمة ولا يحرم إلا ما فيها. وهو قول يُرْوى عن ابن عباس وابن عمر وعائشة، وروي عنهم خلافه. قال مالك: لا حرام بيّنٌ إلا ما ذُكرَ في هذه الآية. وقال ابن خُوَيْز مَنْدَاد: تضمنت هذه الآية تحليلَ كلِّ شيء من الحيوان وغيره إلا ما استثنى في الآية من الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير. ولهذا قلنا: إن لحوم السباع وسائر الحيوان ما سوى الإنسان والخنزير مباح. وقال الكِيَا الطبريّ: وعليها بنى الشافعيّ تحليل كلّ مسكوت عنه أخْذاً من هذه الآية، إلا ما دلّ عليه الدليل. وقيل: إن الآية جواب لمن سأل عن شيء بعينه فوقع الجواب مخصوصاً. وهذا مذهب الشافعيّ. وقد روى الشافعي عن سعيد بن جُبير أنه قال: في هذه الآية أشياء سألوا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجابهم عن المحرّمات من تلك الأشياء. وقيل: أي لا أجد فيما أوحي إليّ أي في هذه الحال حال الوحي ووقت نزوله، ثم لا يمتنع حدوث وَحْيٍ بعد ذلك بتحريم أشياء أخر. وزعم ابن العربي أن هذه الآية مدنية وهي مكية في قول الأكثرين، نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم نزل عليه «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ» ولم ينزل بعدها ناسخ فهي مُحْكَمة، فلا مُحَرَّم إلا ما فيها، وإليه أميل.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7