الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُوۤاْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَٰبَتِ ٱلْجُبِّ وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَـٰذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ }

قوله تعالى: { فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُوۤاْ أَن يَجْعَلُوهُ } «أَنْ» في موضع نصب أي على أن يجعلوه في غيابة الجبّ. قيل في القصة: إن يعقوب عليه السلام لما أرسله معهم أخذ عليهم ميثاقاً غليظاً ليحفظُنّه، وسلّمه إلى روبيل وقال: يا روبيل! إنه صغير، وتعلم يا بنيّ شفقتي عليه فإن جاع فأطعمه، وإن عطش فٱسقه، وإن أَعْيا فٱحمله ثم عَجِّل بردّه إليّ. قال: فأخذوا يحملونه على أكتافهم، لا يضعه واحد إلا رفعه آخر، ويعقوب يُشيِّعهم ميلا ثم رجع فلما انقطع بصر أبيهم عنهم رماه الذي كان يحمله إلى الأرض حتى كاد ينكسر، فالتجأ إلى آخر فوجد عند كل واحد منهم أشدّ مما عند الآخر من الغيظ والعسف فاستغاث بروبيل وقال: «أنت أكبر إخوتي، والخليفة من بعد والدي عليّ، وأقرب الأخوة إليّ، فارحمني وٱرحم ضعفي» فلطمه لطمة شديدة وقال: لا قرابة بيني وبينك، فادع الأحد عشر كوكباً فلتنجك منا فعلم أن حقدهم من أجل رؤياه، فتعلق بأخيه يهوذا وقال: يا أخي! ارحم ضعفي وعجزي وحداثة سني، وارحم قلب أبيك يعقوب فما أسرع ما تناسيتم وصيته ونقضتم عهده فرقّ قلب يهوذا فقال: والله لا يصلون إليك أبداً ما دمتُ حيّاً، ثم قال: يا إخوتاه! إن قتل النفس التي حرم الله من أعظم الخطايا، فردوا هذا الصبيّ إلى أبيه، ونعاهده ألا يحدّث والده بشيء مما جرى أبداً فقال له إخوته: والله ما تريد إلا أن تكون لك المكانة عند يعقوب، والله لئن لم تدعه لنقتلنّك معه، قال: فإن أبيتم إلا ذلك فهاهنا هذا الجبّ الموحش القفر، الذي هو مأوى الحيات والهوام فألقُوه فيه، فإن أصيب بشيء من ذلك فهو المراد، وقد استرحتم من دمه، وإن انفلت على أيدي سيّارة يذهبون به إلى أرض فهو المراد فأجمع رأيهم على ذلك فهو قول الله تعالى: { فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُوۤاْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ ٱلْجُبِّ } وجواب «لما» محذوف أي فلما ذهبوا به وأجمعوا على طرحه في الجب عظمت فتنتهم. وقيل: جواب «لما» قولهم: { قَالُواْ يَأَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ }. وقيل: التقدير فلما ذهبوا به من عند أبيهم وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب جعلوه فيها، هذا على مذهب البصريين وأما على قول الكوفيين فالجواب. «أوحينا» والواو مقحمة، والواو عندهم تزاد مع لما وحتى قال الله تعالى:حَتَّىٰ إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا } [الزمر: 73] أي فتحت، وقوله:حَتَّىٰ إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ } [هود: 40] أي فار. قال ٱمرؤ القيس:
فَلَمَّـا أَجَـزْنَـا ساحَـة الحـيِّ وانَتَحـى   
أي انتحى ومنه قوله تعالى:فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ. وَنَادَيْنَاهُ } [الصافات:103-104] أى ناديناه. وفي قوله: { وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ } دليل على نبوّته في ذلك الوقت. قال الحسن ومجاهد والضّحاك وقَتادة: أعطاه الله النبوّة وهو في الجبّ على حجر مرتفع عن الماء.

السابقالتالي
2 3