الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَدَخَلَ ٱلْمَدِينَةَ عَلَىٰ حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ هَـٰذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَـٰذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَٱسْتَغَاثَهُ ٱلَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى ٱلَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيْهِ قَالَ هَـٰذَا مِنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ }

طويت أخبار كثيرة تنبىء عنها القصة وذلك أن موسى يفع وشب في قصر فرعون فكان معدوداً من أهل بيت فرعون، وقيل كان يدعى موسى ابن فرعون. وجملة { ودخل المدينة } عطف على جملةوأوحينا إلى أم موسى أن أرضيعه } القصص 7 عطف جزء القصة على جزء آخر منها، وقد علم موسى أنه من بني إسرائيل، لعله بأن أمه كانت تتصل به في قصر فرعون وكانت تقص عليه نبأه كله. والمدينة هي منفيس قاعدة مصر الشمالية. ويتعلق { على حين غفلة } بــــ { دخل }. و { على } للاستعلاء المجازي كما في قوله تعالىعلى هدى من ربهم } البقرة 5، أي متمكناً من حين غفلة. وحين الغفلة هو الوقت الذي يغفل فيه أهل المدينة عما يجري فيها وهو وقت استراحة الناس وتفرقهم وخُلوّ الطريق منهم. قيل كان ذلك في وقت القيلولة وكان موسى مجتازاً بالمدينة وحده، قيل ليلحق بفرعون إذ كان فرعون قد مر بتلك المدينة. والمقصود من ذكر هذا الوقت الإشارة إلى أن قتله القبطي لم يشعر به أحد تمهيداً لقوله بعدقال يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفساً بالأمس } القصص 19 الآيات ومقدمة لذكر خروجه من أرض مصر. والإشارتان في قوله { هذا من شيعته وهذا من عدوه } تفصيل لما أجمل في قوله { رجلين يقتتلان }. واسم الإشارة في مثل هذا لا يراعى فيه بُعدٌ ولا قُرب، فلذلك قد تكون الإشارتان متماثلتين كما هنا وكما في قوله تعالىلا إلى هؤلاء } النساء 143. ويجوز اختلافهما كقول المتلمس
ولا يقيم على ضيم يراد به إلا الأذلان غير الحي والوتد هذا على الخسف مربوط برمته وذا يشج فلا يرثي له أحد   
والشيعة الجماعة المنتمية إلى أحد، وتقدم آنفاً في قولهوجعل أهلها شيعاً } القصص 4. والعدو الجماعة التي يعاديها موسى، أي يُبغضها. فالمراد بالذي من شيعته أنه رجل من بني إسرائيل، وبالذي من عدوه رجل من القبط قوم فرعون. والعدو وصف يستوي فيه الواحد والجمع كما تقدم عند قوله تعالىفإنهم عدو لي } في سورة الشعراء 77. ومعنى كون { هذا من شيعته وهذا من عدوه } يجوز أن يكون المراد بهذين الوصفين أن موسى كان يعلم أنه من بني إسرائيل بإخبار قصة التقاطه من اليمّ وأن تكون أمه قد أفضت إليه بخبرها وخبره كما تقدم، فنشأ موسى على عداوة القبط وعلى إضمار المحبة لبني إسرائيل. وأما وكزه القبطي فلم يكن إلا انتصاراً للحق على جميع التقادير، ولذلك لما تكررت الخصومة بين ذلك الإسرائيلي وبين قبطي آخر وأراد موسى أن يبطش بالقبطي لم يقل له القبطي إن تريد إلا أن تنصر قومك وإنما قالإن تريد إلا أن تكون جباراً في الأرض } القصص 19. قيل كان القبطي من عملة مخبز فرعون فأراد أن يحمل حطباً إلى الفرن فدعا إسرائيلياً ليحمله فأبى فأراد أن يجبره على حمله وأن يضعه على ظهره فاختصما وتضاربا ضرباً شديداً وهو المعبر عنه بالتقاتل على طريق الاستعارة.

السابقالتالي
2