الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ ٱللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّىٰ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي ٱلأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ ٱلآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَٱللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ }

{ ولقد صدقكم } عطف على قولهسنلقى في قلوب الذين كفروا الرعب } آل عمران 151 وهذا عود إلى التَّسلية على ما أصابهم، وإظهار لاستمرار عناية الله تعالى بالمؤمنين، ورمز إلى الثقة بوعدهم بإلقاء الرعب في قلوب المشركين، وتبيين لسبب هزيمة المسلمين تطميناً لهم بذكر نظيره ومماثله السابقِ، فإنّ لذلك موقعاً عظيماً في الكلام على حدّ قولهم التَّاريخ يعيد نفسه وليتوسّل بذلك إلى إلقاء تَبِعة الهزيمة عليهم، وأنّ الله لم يُخلفهم وعده، ولكن سوء صنيعهم أوقعهم في المصيبة كقولهوما أصابك من سيئة فمن نفسك } النساء 79. وصِدق الوعد تحقيقُه والوفاءُ به، لأنّ معنى الصدق مطابقة الخبر للواقع، وقد عدّي صدق هنا إلى مفعولين، وحقّه أن لا يتعدّى إلا إلى مفعول واحد. قال الزمخشري في قوله تعالى ـــ في سورة الأحزاب 23 ـــمن المؤمنين رجال صَدَقوا ما عاهدوا الله عليه } يقال صدقني أخوك وكذَبني إذا قال لك الصدق والكذب، وأمَّا المثَل صَدَقَنِي سِنّ بَكْرِه فمعناه صدقني في سنّ بَكره بطرح الجارّ وإيصال الفعل. فنصب وعدَه } هنا على الحذف والإيصال، وأصل الكلام صدقَكم في وعده، أو على تضمين صَدَق معنى أعطى. والوعد هنا وعد النصر الواقعُ بمثل قولهيأيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم } محمد 7 أو بخبر خاصّ في يوم أحُد. وإذْن الله بمعنى التقدير وتيسير الأسباب. و إذ في قوله { إذ تحسونهم } نصب على الظرفية لقوله { صدقكم } أي صدقكم الله الوعد حين كنتم تحسّونهم بإذنه فإنّ ذلك الحسّ تحقيق لوعد الله إيّاهم بالنَّصر، و إذْ فيه للمضيّ، وأتى بعدها بالمضارع لإفادة التجدّد أي لحكاية تجدّد الحسّ في الماضِي. والحَسّ ـــ بفتح الحاء ـــ القَتل أطلقه أكثر اللغويين، وقَيّده في «الكشاف» بالقتل الذريع، وهو أصوب. وقوله { حتى إذا فشلتم } حتَّى حرف انتهاء وغاية، يفيد أنّ مضمون الجملة الَّتي بعدها غاية لمضمون الجملة الَّتي قبلها، فالمعنى إذ تقتلونهم بتيسير الله، واستمرّ قتلكم إيّاهم إلى حصول الفشل لكم والتنازع بينكم. وحتَّى هنا جارّة وإذا مجرور بها. وإذا اسم زمان، وهو في الغالب للزمان المستقبل وقد يخرج عنه إلى الزمان مطلقاً كما هنا، ولعلّ نكتة ذلك أنَّه أريد استحضار الحالة العجيبة تبعاً لقوله { تحسونهم }. وإذا هنا مجرّدة عن معنى الشرط لأنَّها إذا صارت للمضيّ انسلخت عن الصلاحية للشرطية، إذ الشرط لا يكون ماضياً إلاّ بتأويل لذلك فهي غير محتاجة لجواب فلا فائدة في تكلّف تقديره انقسمتم، ولا إلى جعل الكلام بعدها دليلاً عليه وهو قوله { منكم من يريد الدنيا } إلى آخرها. والفشل الوهن والإعياء، والتنازع التخالف، والمُراد بالعصيان هنا عصيان أمر الرسول، وقد رتّبت الأفعال الثلاثة في الآية على حسب ترتيبها في الحصول، إذ كان الفشل، وهو ضجر بعض الرماة من ملازمة موقفهم للطمع في الغنيمة، قد حصل أولاً فنشأ عنه التنازع بينهم في ملازمة الموقف وفي اللحاق بالجيش للغنيمة، ونشأ عن التنازع تصميم معظمهم على مفارقة الموقف الَّذي أمرهم الرسول ـــ عليه الصلاة والسّلام ـــ بملازمته وعدم الانصراف منه، وهذا هو الأصل في ترتيب الأخبار في صناعة الإنشاء ما لم يقتض الحال العدول عنه.

السابقالتالي
2 3