الرئيسية - التفاسير


* تفسير المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز/ ابن عطية (ت 546 هـ) مصنف و مدقق


{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي ٱلأَرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ ٱللَّهُ ذٰلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَٱللَّهُ يُحْيِـي وَيُمِيتُ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }

نهى الله تعالى المؤمنين عن الكون مثل الكفار والمنافقين في هذا المعتقد الفاسد، الذي هو أن من سافر في تجارة ونحوها ومن قاتل فقتل لو قعد في بيته لعاش ولم يمت في ذلك الوقت الذي عرض فيه نفسه للسفر أو للقتال، وهذا هو معتقد المعتزلة في القول بالأجلين، وهو نحو منه، وقوله تعالى: { لإخوانهم } هي أخوة نسب، لأن قتلى -أحد- كانوا من الأنصار، أكثرهم من الخزرج، ولم يكن فيهم من المهاجرين إلى أربعة، وصرح بهذه المقالة فيما ذكر السدي ومجاهد وغيرهما، عبد الله بن أبي المنافق وأصحابه، وقيل: بل قالها جميع المنافقين، ودخلت { إذا } في هذه الآية وهي حرف استقبال، من حيث { الذين } اسم فيه إبهام يعم من قال في الماضي، ومن يقول في المستقبل، ومن حيث هذه النازلة تتصور في مستقبل الزمان، ويطرد النهي للمؤمنين فيها، فوضعت { إذا } لتدل على اطراد الأمر في مستقبل الزمان، وهذه فائدة وضع المستقبل موضع الماضي، كما قال تعالى:والله يدعو إلى دار السلام } [يونس: 25] إلى نحوها من الآيات وكما قالت:

وفينا نبي يعلم ما في غد   
كما أن فائدة وضعهم الماضي موضع المستقبل للدلالة على ثبوت الأمر، لأن صيغة الماضي متحققة الوقوع، فمن ذلك قول الشاعر:
وَإنّي لآتيكم تَشَكُّرَ ما مَضَى   مِنَ الأَمْرِ واسْتيجَاب مَا كَانَ في غَدِ
ومنه قول الربيع:

أَصْبَحْتُ لا أَمْلِكُ السلاحَ وَلاَ   أَمْلِكُ رَأْسَ الْبَعِيرِ إنْ نَفَرَا
و " الضرب في الأرض ": الإبعاد في السير، ومنه ضرب الدهر ضربانه: إذا بعدت المدة، وضرب الأرض: هو الذهاب فيها لحاجة الإنسان خاصة بسقوط " في " وقال السدي وغيره: في هذه الآية، الضرب في الأرض: السير في التجارة، وقال ابن إسحاق وغيره: بل هو السير في جميع طاعات الله ورسوله، والضرب في الأرض يعم القولين، و { غزى }: جمع غاز، وزنه -فعل- بضم الفاء وشد العين المفتوحة كشاهد وشهد وقائل وقول، وينشد بيت رؤبة: [الرجز]

فالآنَ قَدْ نَهْنَهَني تَنَهْنُهِي   وَقَوْلُ حِلْمٍ لَيْسَ بِالْمُسَفَّهِ
(وقول، الاده فلاده)   
يريد إن لم تتب الآن فلا تتوب أبداً، وهو مثل معناه: إن لم تكن كذا فلا تكن كذا، وقد روي، وقولهم الأده فلاده، قال سيبويه وغيره: لا يدخل { غزى } الجر ولا الرفع، وقرأته عامة القراءة بتشديد الزاي، وقرأ الحسن بن أبي الحسن والزهري، " غزى " مخففة الزاي، ووجهه إما أن يريد غزاة، فحذف الهاء إخلاداً إلى لغة من يقول " غزّى " بالتشديد، وهذ الحرف كثير في كلامهم، قول الشاعر يمدح الكسائيّ: [الطويل]

أَبى الذَّمُّ أَخْلاَقَ الكِسَائيّ وانتمى   بهِ الْمَجْدُ أخْلاق الأُبُوِّ السوابقِ
يريد الأبوة جمع أب، كما أن العمومة جمع عم، والبنوة جمع ابن وقد قالوا: ابن وبنو، وتحتمل قراءتهما أن تكون تخفيفاً للزاي من " غزى " ، ونظيره قراءة علي بن أبي طالب رضي الله عنه

السابقالتالي
2