الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ قُلْ أَغَيْرَ ٱللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ }

{ قُلْ أَغَيْرَ ٱللَّهِ أَبْغِي رَبّاً } فأشركه في عبادته. وهو جواب عن دعائهم له عليه الصلاة والسلام إلى عبادة آلهتهم، وفي إيثار نفي البغية والطلب، على نفي العبادة، أبلغية لا تخفى { وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ } حال في موضع العلة للإنكار والدليل له. أي وكل ما سواه مربوب مثلي لا يصلح للربوبية، فلا أكون عبداً لعبده.

قال ابن كثير: أي فلا أتوكل إلا عليه ولا أنيب إلا إليه. لأنه رب كل شيء ومليكه وله الخلق والأمر. ففي هذه الآية الأمر بإخلاص العبادة والتوكل. كما تضمنت الآية التي قبلها إخلاص العبادة له لا شريك له. وهذا المعنى يقرن بالآخر كثيراً. كقوله تعالى مرشداً لعباده أن يقولوا:إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [الفاتحة: 5]. وقوله:فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } [هود: 123].

وقوله تعالى:قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا } [الملك: 29].وقوله:رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً } [المزمل: 9] وأشباه ذلك من الآيات.

{ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ }.

قال ابن كثير: إخبار عن الواقع يوم القيامة من جزاء الله تعالى وحكمه وعدله؛ أن النفوس إنما تجازي بأعمالها إن خيرا فخير وإن شرا فشر. وأنه لا يحمل من خطيئة أحد على أحد. وهذا من عدله تعالى.

وقال أبو السعود: كانوا يقولون للمسلمين:ٱتَّبِعُواْ سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ } [العنكبوت: 12]. إما بمعنى ليكتب علينا ما عملتم من الخطايا لا عليكم، وإما بمعنى لنحمل يوم القيامة ما كتب عليكم من الخطايا - فهذا رد له بالمعنى الأول. أي: لا تكون جناية نفس من النفوس إلا عليها. ومحال أن يكون صدورها عن شخص وقرارها على شخص آخر، حتى يتأتى ما ذكرتم. وقوله تعالى: { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ } رد له بالمعنى الثاني. أي: لا تحمل يومئذ نفس حاملة، حمل نفس أخرى، حتى يصح قولكم.

تنبيه

قال السيوطيّ في (الإكليل): هذه الآية أصل في أنه لا يؤاخذ أحد بفعل أحد. وقد ردت عائشة به على من قال: إن الميت يعذب ببكاء الحي عليه. أخرجه البخاريّ، وأخرج ابن أبي حاتم عنها؛ أنها سئلت عن ولد الزنى؟ فقالت ليس عليه من خطيئة أبويه شيء. وتلت هذه الآية.

قال: الكيا الهراسيّ: ويحتج بقوله: { وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا } في عدم نفوذ تصرف زيد على عمرو إلا ما قام عليه الدليل. قال ابن الفرس: واحتج به من أنكر ارتباط صلاة المأموم بصلاة الإمام.

وقال بعض الزيدية: قوله تعالى: { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ } يعني: في أمر الآخرة فيبطل قول إن أطفال المشركين يعذبون بكفر آبائهم. ويلزم ألا يعذب الميت ببكاء أهله عليه. حيث لا سبب له. وأما في أمر الدنيا، فقد خص هذا بحديث العاقلة. وكذلك أسر أولاد الكفار ونحو ذلك. انتهى.

{ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ } أي: رجوعكم بعد الموت يوم القيامة { فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } بتمييز الحق من الباطل. وهذه الآية كقوله تعالى:قُل لاَّ تُسْأَلُونَ عَمَّآ أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ * قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِٱلْحَقِّ وَهُوَ ٱلْفَتَّاحُ ٱلْعَلِيمُ } [سبأ: 25-26].