الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ قُلْ أَغَيْرَ ٱللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ }

{ قُلْ أَغَيْرَ ٱللَّهِ أَبْغِى رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَىْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ }. استئناف ثالث، مفتتح بالأمر بالقول، يتنزّل منزلة النّتيجة لما قبله، لأنَّه لمَّا عُلم أنّ الله هداه إلى صراط مستقيم، وأنقذه من الشّرك، وأمره بأن يمحّض عبادته وطاعته لربّه تعالى، شكراً على الهداية، أتبع ذلك بأن يُنكر أنْ يَعْبُد غير الله تعالى لأنّ واهب النّعم هو مستحقّ الشّكر، والعبادةُ جماع مراتب الشّكر، وفي هذا رجوع إلى بيان ضلالهم إذ عَبدوا غيره وإعادة الأمر بالقول تقدّم بيان وجهه. والاستفهام إنكار عليهم لأنَّهم يرغبون أن يعترف بربوبية أصنامهم، وقد حاولوا منه ذلك غير مرّة سواء كانوا حاولوا ذلك منه بقرب نزول هذه الآية أم لم يحاولوه، فهم دائمون على الرّغبة في موافقتهم على دينهم، حكى ابن عطيّة عن النقّاش أنّ الكفّار قالوا للنّبي صلى الله عليه وسلم " ارجِعْ إلى ديننا واعْبُدْ آلهتنا ونحن نتكفّل لك بكلّ تباعة تتوقَّعها في دنياك وآخرتك " وأنّ هذه الآية نزلت في ذلك. وقدّم المفعول على فعله لأنَّه المقصود من الاستفهام الإنكاري، لأنّ محلّ الإنكار هو أن يكون غير الله يُبتغى له ربّاً، ولأنّ ذلك هو المقصود من الجواب إذا صحّ أنّ المشركين دعوا النّبي صلى الله عليه وسلم لعبادة آلهتهم فيكون تقديمه على الفعل للاهتمام لموجِب أو لموجِبَيْن، كما تقدّم في قوله تعالىقل أغير الله أتخذ وليا } في هذه السّورة 14. وجملة { وهو رب كل شيء } في موضع الحال، وهو حال معلّل للإنكار، أي أنّ الله خالق كلّ شيء وذلك باعترافهم، لأنَّهم لا يدّعون أنّ الأصنام خالقة لشيء، كما قال تعالىلن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له } الحج 73 فلمّا كان الله خالق كلّ شيء وربَّه فلا حقّ لغيره في أن يعبده الخلائق، وعبادة غيره ظلم عظيم، وكفر بنعمة الربوبيّة، وبقطع النَّظر عن كون الخلق نعمة، لأنّ الخلق إيجاد والوجود أفضل من العدم، فإنّ مجرد الخلق موجب للعبادة لأجل العبوديّة. وإنَّما قيل { وهو رب كل شيء } ، ولم يقل وهو ربّي، لإثبات أنّه ربّه بطريق الاستدلال لكونه إثباتَ حكم عام يشمل المقصودَ الخاصّ، ولإفادة أنّ أربابهم غير حقيقة بالربوبيّة لأنَّها مربوبة أيضاً لله تعالى. وقوله { ولا تكسب كل نفس إلا عليها } من القول بالمأمور به، مفيد متاركةً للمشركين ومَقتاً لهم بأنّ عنادهم لا يَضرّه، فإنّ ما اقترفوه من الشّرك لا يناله منه شيء فإنَّما كسب كلّ نفس عليها، وهم من جملة الأنفس فكسبهم عليهم لا يتجاوزهم إلى غيرهم. فالتّعميم في الحكم الواقع في قوله { كل شيء } فائدته مثل فائدة التّعميم الواقع في قوله { وهو رب كل شيء }.

السابقالتالي
2