الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ ٱلرُّسُلِ وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً }

{ رُّسُلاً } أي: كل هؤلاء النبيين أرسلناهم رسلاً { مُّبَشِّرِينَ } بالجنة لمن آمن { وَمُنذِرِينَ } من النار لمن كفر { لِئَلاَّ } لكيلا { يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةٌ } يوم القيامة أي: معذرة يعتذرون بها قائلين: لولا أرسلت إلينا فيبيّن لنا شرائعك، ويعلمنا ما لم نكن نعلم من أحكامك، لقصور القوة البشرية عن إدراك جزئيات المصالح، وعجز أكثر الناس عن إدراك كلياتها، كما في قوله عز وجل:وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلاۤ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ... } [طه: 134] الآية. وإنما سميت حجة، مع استحالة أن يكون لأحد عليه، سبحانه، حجة في فعل من أفعاله، بل له أن يفعل ما يشاء كما يشاء - للتنبيه على أن المعذرة في القبول عنده تعالى، بمقتضى كرمه ورحمته لعباده، بمنزلة الحجة القاطعة التي لا مردّ لها، ولذلك قال تعالى:وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولاً } [الإسراء: 15]، أفاده أبو السعود.

وفي الصحيحين عن المغيرة: " لاَ أَحَدَ أحب إليه العذر من الله " ومن أجل ذلك بعث المرسلين مبشرين ومنذرين. وقوله تعالى: { بَعْدَ ٱلرُّسُلِ } أي: بعد إرسال الرسل وإنزال الكتب. متعلق بـ { حُجَّةٌ } أو بمحذوف وقع صفة لها، وفيه دليل على أن الله تعالى لا يعذب الخلق قبل بعثة الرسل، كما قال تعالى:وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولاً } [الإسراء: 15]، وفيه دليل لمذهب أهل السنة على أن معرفة الله تعالى، لا تثبت إلا بالسمع { وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزاً } يعني في انتقامه ممن خالف أمره وعصى رسوله { حَكِيماً } في بعث الرسل للإنذار.

تنبيه

أشارت الآية إلى بيان حاجة البشر إلى إرسال الرسل، وإلى وظيفتهم عليه السلام.

قال العلامة السيد محمد عبده، مفتي مصر في (رسالة التوحيد) في هذا المبحث: أفليس من حكمة الصانع الحكيم الذي أقام أمر الإنسان على قاعدة الإرشاد والتعليم، الذي خلق الإنسان وعلمه البيان، علمه الكلام للتفاهم والكتاب للتراسل - أن يجعل من مراتب الأنفس البشرية مرتبة يُعِدّ لها، بمحض فضله، بعض من يصطفيه من خلقه؟ وهو أعلم حيث يجعل رسالته، يميزهم بالفطر السليمة ويبلغ بأرواحهم من الكمال ما يليقون معه للاستشراق بأنوار علمه، والأمانة على مكنون سره، مما لو انكشف لغيرهم انكشافه لهم، لفاضت له نفسه أو ذهبت بعقله جلالته وعظمه، فيشرفون على الغيب بإذنه، ويعلمون ما سيكون من شأن الناس فيه، ويكونون في مراتبهم العلوية على نسبة من العاملين، نهاية الشاهد وبداية الغائب، فهم في الدنيا كأنهم ليسوا من أهلها، وهم وفد الآخرة في لباس من ليس من سكانها ثم يتلقون من أمره أن يحدثوا عن جلاله، وما خفي على العقول من شؤون حضرته الرفيعة، بما يشاء أن يعتقده العباد فيه، وما قدّر أن يكون له مدخل في سعادتهم الأخروية، وأن يبينوا للناس من أحوال الآخرة ما لا بد لهم من علمه، معبرين عنه بما تحتمله طاقة عقولهم، ولا يبعد عن متناول أفهامهم، وأن يبلغوا عنه شرائع عامة، تحدد لهم سيرهم في تقويم نفوسهم، وكبح شهواتهم، وتعلمهم من الأعمال ما هو مناط سعادتهم وشقائهم، في ذلك الكون المغيّب عن مشاعرهم بتفصيله، اللاصق علمه بأعماق ضمائرهم في إجماله، ويدخل في ذلك جميع الأحكام المتعلقة بكليات الأعمال ظاهرة وباطنة، ثم يؤيدهم بما لا تبلغه قوى البشر من الآيات، حتى تقوم بهم الحجة ويتم الإقناع بصدق الرسالة، فيكونون بذلك رسلاً من لدنه إلى خلقه، مبشرين ومنذرين.

السابقالتالي
2 3 4 5