الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ كَانُواْ قَلِيلاً مِّن ٱللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ } * { وَبِٱلأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } * { وَفِيۤ أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ وَٱلْمَحْرُومِ }

فيه خمس مسائل: الأولى ـ قوله تعالى: { كَانُواْ قَلِيلاً مِّن ٱللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ } معنى «يَهْجَعُونَ» ينامون والهجوع النوم ليلاً، والتَّهْجاع النومة الخفيفة قال أبو قيس بن الأَسْلَت:
قد حصَّتِ البيضةُ رأسي فَمَا   أَطْعَمُ نَوْماً غيرَ تَهْجاعِ
وقال عمرو بن مَعْدي كرِب يتشوّق أخته وكان أسرها الصِّمَّة أبو دُرَيد بن الصِّمَّة:
أَمِنْ رَيْحَانة الدَّاعِي السَّميعُ   يُؤَرِّقُنِي وأَصحابي هُجوعُ
يقال: هَجَعَ يَهْجَع هُجوعاً، وهَبَغَ يَهْبَغُ هُبوغاً بالغين المعجمة إذا نام قاله الجوهري. وٱختلف في «ما» فقيل: صلة زائدة ـ قاله إبراهيم النخعي ـ والتقدير كانوا قليلاً من الليل يهجعون أي ينامون قليلاً من الليل ويصلّون أكثره. قال عطاء: وهذا لما أمروا بقيام الليل. وكان أبو ذرّ يحتجِز ويأخذ العصا فيعتمد عليها حتى نزلت الرخصة { قُمِ ٱلْلَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً } الآية. وقيل: ليس «ما» صلة بل الوقف عند قوله: «قَلِيلاً» ثم يبتدىء { مِّن ٱللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ } فـ«ـما» للنفي وهو نفي النوم عنهم البَتّةَ. قال الحسن: كانوا لا ينامون من الليل إلا أقله وربما نَشِطوا فجدّوا إلى السحر. روي عن يعقوب الحضرمي أنه قال: ٱختلفوا في تفسير هذه الآية فقال بعضهم: «كَانُوا قَلِيلاً» معناه كان عددهم يسيراً ثم ٱبتدأ فقال: { مِّن ٱللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ } على معنى من الليل يهجعون قال ٱبن الأنباري: وهذا فاسد لأن الآية إنما تدل على قلة نومهم لا على قلة عددهم، وبعد فلوا ٱبتدأنا «مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ» على معنى من الليل يهجعون لم يكن في هذا مدح لهم لأن الناس كلهم يهجعون من الليل إلا أن تكون «ما» جَحْداً. قلت: وعلى ما تأوّله بعض الناس ـ وهو قول الضحاك ـ من أن عددهم كان يسيراً يكون الكلام متصلاً بما قبل من قوله: { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ } أي كان المحسنون قليلاً، ثم ٱستأنف فقال: { مِّن ٱللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ } وعلى التأويل الأوّل والثاني يكون «كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ» خطاباً مستأنفاً بعد تمام ما تقدّمه ويكون الوقف على «مَا يَهْجَعُونَ»، وكذلك إن جعلت «قَلِيلاً» خبر كان وترفع «ما» بقليل كأنه قال: كانوا قليلاً من الليل هجوعهم. فـ«ـما» يجوز أن تكون نافية، ويجوز أن تكون مع الفعل مصدراً، ويجوز أن تكون رفعاً على البدل من ٱسم كان، التقدير كان هجوعهم قليلاً من الليل، وٱنتصاب قوله: «قَلِيلاً» إن قدرت «ما» زائدة مؤكدة بـ«ـيَهْجَعُونَ» على تقدير كانوا وقتاً قليلاً أو هجوعاً قليلاً يهجعون، وإن لم تقدر «ما» زائدة كان قوله: «قَلِيلاً» خبر كان ولم يجز نصبه بـ«ـيَهْجَعُونَ» لأنه إذا قدر نصبه بـ«ـيَهْجَعُونَ» مع تقدير «ما» مصدراً قدمت الصلة على الموصول. وقال أنس وقتادة في تأويل الآية: أي كانوا يصلّون بين العشاين: المغرب والعشاء.

السابقالتالي
2 3