الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَلَكُمْ فِي ٱلْقِصَاصِ حَيَٰوةٌ يٰأُولِي ٱلأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }

وقوله تعالى: { وَلَكُمْ فِي ٱلْقِصَاصِ حَيَٰوةٌ } كلام في غاية الفصاحة والبلاغة لما فيه من الغرابة، حيث جعل الشيء محل ضدّه، فإن القصاص قتل وتفويت للحياة. وقد جعل مكاناً وظرفاً للحياة، وعرّف القصاص ونكر الحياة، ليدل على أن في هذا الجنس من الحكم - الذي هو القصاص - حياة عظيمة، وذلك أنهم كانوا يقتلون بالواحد الجماعة. وكم قتل مهلهل بأخيه حتى كاد يفني بكر بن وائل! وكان يقتل بالمقتول غير قاتله، فتثور الفتنة، ويقع بينهم التناحر..! فلما جاء الإسلام بشرع القصاص كانت فيه حياة أي حياة..! أو نوع من الحياة، وهي الحياة الحاصلة بالارتداع عن القتل لوقوع العلم بالاقتصاص من القاتل، لأنه إذا همّ بالقتل، فعَلم أنه يقتص منه فارتدع، سلم صاحبه من القتل، وسلم هو من القود. فكان القصاص سبب حياة نفسين..! هذا ما يستفاد من الكشاف.

لطيفة

اتفق علماء البيان على أنّ هذه الآية - في الإيجاز مع جمع المعاني - بالغة إلى أعلى الدرجات..! وذلك لأن العرب عبّروا عن هذا المعنى بألفاظ كثيرة، كقولهم: قَتْل البعض إحياء للجميع، وقول آخرين: أكثروا القتل ليقلّ القتل، وأجود الألفاظ المنقولة عنهم في هذا الباب قولهم: القتل أنفى للقتل؛ وقد كانوا مطبقين على استجادة معنى كلمتهم واسترشاق لفظها..! ومن المعلوم لكلّ ذي لُبًّ أنّ بينها وبين ما في القرآن كما بين الله وخلقه! وأنّى لها الوصول إلى رشاقة القرآن وعذوبته..!

قال في الإتقان: وقد فضلت هذه الجملة على أوجز ما كان عند العرب في هذا المعنى وهو قولهم: القتل أنفى للقتل بعشرين وجهاً أو أكثر. وقد أشار ابن الأثير إلى إنكار هذا التفضيل وقال: لا تشبيه بين كلام الخالق وكلام المخلوق..! وإنما العلماء يقدحون أذهانهم فيما يظهر لهم من ذلك..!

الأول: أنّ ما يناظره من كلامهم وهو { ٱلْقِصَاصِ حَيَٰوةٌ } أقلّ حروفاً، فإنّ حروفه عشرة وحروف القتل أنفى للقتل أربعة عشر...!

الثاني: أنّ نفي القتل لا يستلزم الحياة، والحياة ناصّة على ثبوتها التي هي الغرض المطلوب منه.

الثالث: أنّ تنكير { حَيَٰوةٌ } يفيد تعظيماً، فيدلّ على أن في القصاص حياة متطاولة، كقوله تعالى:وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ ٱلنَّاسِ عَلَىٰ حَيَاةٍ } [البقرة: 96]. ولا كذلك المثل، فإنّ اللام فيه للجنس، ولذا فسروا الحياة فيها بالبقاء!

الرابع: أنّ الآية فيه مطّردة، بخلاف المثل، فإنه ليس كلّ قتلٍ أنفى للقتل، بل قد يكون أدعى له، وهو القتل ظلماً..! وإنما ينفيه قتل خاصّ، وهو القصاص، ففيه حياة أبداً..!

الخامس: أنّ الآية خالية من تكرار لفظ القتل الواقع في المثل. والخالي من التكرار أفضل من المشتمل عليه وإن لم يكن مخلاً بالفصاحة..!

السادس: أنّ الآية مستغنية عن تقدير محذوف، بخلاف قولهم.

السابقالتالي
2 3