الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱلَّذِينَ ٱجْتَنَبُواْ ٱلطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ لَهُمُ ٱلْبُشْرَىٰ فَبَشِّرْ عِبَادِ } * { ٱلَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ ٱلْقَوْلَ فَيَـتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَاهُمُ ٱللَّهُ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمْ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ }

لما انتهى تهديد المشركين وموعظة الخلائق أجمعين ثُني عنان الخطاب إلى جانب المؤمنين فيما يختص بهم من البشارة مقابلة لنذارة المشركين. والجملة معطوفة على جملةقُلْ إنَّ الخاسرين الذين خسِرُوا أنفسهم } الزمر 15 الآية.والتعبير عن المؤمنين بــــ { الذين اجتنبوا الطاغوت } لما في الصلة من الإِيماء إلى وجه بناء الخبر وهو { لهُمُ البُشْرىٰ } ، وهذا مقابل قولهذٰلِكَ يُخوفُ الله به عِباده } الزمر 16. والطاغوت مصدر أو اسم مصدر طَغا على وزن فَعَلُوت بتحريك العين بوزن رَحموتٍ وملكوت. وفي أصله لغتان الواو والياء لقولهم طغا طُغُوًّا مثل علوّ، وقولهم طغوان وطغيان. وظاهر «القاموس» أنه واوي، وإذ كانت لامه حرف علة ووقعت بعدها واوُ زِنةِ فَعلوت استثقلت الضمة عليها فقدموها على العين ليتأتّى قلبها ألفاً حيث تحركت وانفتح ما قبلها فصار طاغوت بوزن فَلَعُوت بتحريك اللام وتاؤُه زائدة للمبالغة في المصدر.ومن العلماء من جعل الطاغوت اسماً أعجمياً على وزن فَاعول مثل جالوت وطالوت وهارون، وذكره في «الإِتقان» فيما وقع في القرآن من المعرّب وقال إنه الكاهن بالحبشية. واستدركه ابن حجر فيما زاده على أبيات ابن السبكي في الألفاظ المعرَّبة الواقعة في القرآن، وقد تقدم ذكره بأخصر مما هنا عند قوله تعالىألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت } في سورة النساء 51.وأُطلق الطاغوت في القرآن والسنة على القوي في الكفر أوْ الظلم، فأطلق على الصّنم، وعلى جماعة الأصنام، وعلى رئيس أهل الكفر مثل كعب بن الأشرف. وأما جمعه على طواغيت فذلك على تغليب الاسمية علماً بالغلبة إذ جعل الطاغوت لواحد الأصنام وهو قليل، وهو هنا مراد به جماعة الأصنام وقد أجرى عليه ضمير المؤنث في قوله { أن يعْبُدُوهَا } باعتبار أنه جمع لغير العاقل، وأجري عليه ضمير جماعة الذكور في قوله تعالىوالذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات } في سورة البقرة 257 باعتبار أنه وقع خبراً عن الأولياء وهو جمع مذكر، وباعتبار تنزيلها منزلة العقلاء في زعم عبادها. و { أن يعبُدُوها } بدل من { الطَّاغُوتَ } بدل اشتمال.والإِنابة التوبة وتقدمت في قولهإن إبراهيم لحليم أواه منيب } في سورة هود 75. والمراد بها هنا التوبة من كل ذنب ومعصية وأعلاها التوبة من الشرك الذي كانوا عليه في الجاهلية.والبشرى البشارة، وهي الإِخبار بحصول نفع، وتقدمت في قوله تعالىلهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة } في سورة يونس 64. والمراد بها هنا البشرى بالجنة.وفي تقديم المسند من قوله { لهُمُ البُشْرىٰ } إفادة القصر وهو مثل القصر في { أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب }.وفرع على قوله { لهُمُ البُشْرى } قوله { فبشر عبادِ الذين يستمعون القول فيتَّبِعون أحسنه } وهم الذين اجتنبوا الطاغوت، فعدل عن الإِتيان بضميرهم بأن يقال فبشرهم، إلى الإِظهار باسم العِباد مضاف إلى ضمير الله تعالى، وبالصلة لزيادة مدحهم بصفتين أخريين وهما صفة العبودية لله، أي عبودية التقرب، وصفة استماع القول واتباع أحسنه.

السابقالتالي
2 3