الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱلَّذِينَ ٱجْتَنَبُواْ ٱلطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ لَهُمُ ٱلْبُشْرَىٰ فَبَشِّرْ عِبَادِ } * { ٱلَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ ٱلْقَوْلَ فَيَـتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَاهُمُ ٱللَّهُ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمْ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ }

كلمة الطاغوت مبالغة من طاغٍ، والطاغوت هو الظالم الذي يزيده احترام الناس لظلمه، أو خوفهم منه يزيده ظلماً وغطرسة، والطاغوت لا بدّ أنْ يكون له توجيه وتعالٍ، لذلك لا يقال للأصنام طواغيت، لأنها لا تعلو بذاتها، وليس لها توجيهات، إنما يعلو بها عُبَّادها، إذن: الطاغوت لا يكون إلا من البشر، ولو كان حاكمين فقط، وإلا فما وَجْه الطغيان في الأصنام؟ الأصنام لا قالت ولا ظلمت. وفي المثل الريفي يقولون: يا فرعون إيه فرعنك؟ قال: ملقيتش حد يردني إذن: لو وقف الناس في وجهه، ولو ردوا ألوهيته عندما ألَّه نفسه لارتدع عن هذا. ورحم الله أحمد الزين، ففي عهد الملك أرادوا وحدة وطنية تجمع كل الأحزاب تجتمع بالملك ليفكروا في حَلِّ مشاكل البلد، ودَعَوا لذلك مصطفى النحاس، لكنه لم يذهب، فلما سأله أتباعه: لماذا لم تذهب لهذا الاجتماع؟ قال: لأني سأكون فيه أقلية. يعني: لكثرة الموجودين، فأخذ أحمد الزين هذا الموقف، وقال فيه قصيدة أراد أنْ يغمز فيها الملك، فقال:
كُلُّهم بالهَوَى يُمجِّدُ دِينَهُ   أَلْف مُفْتٍ ومالكٌ بالمدينَه
كَمْ رئيس لَوْلاَ القَوانينُ   تَحْمِي جَهْلَهُ كانَ طرده قَانُونهْ
ذُو جُنُونٍ وَزَادَ فِيهِ جُنُوناً   أنْ يَرىَ عَاقِلاً يُطِيعُ جُنُونَهُ
فالطاغوت ما صار طاغوتاً إلا لأن الناسَ خافوه ولم يَرُدُّوا طغيانه، ولم يجابهوه، بل وافقوه وداهنوه، فاستشرى به الطغيان. البعض يرى أن الطاغوت كل ما عُبد من دون الله، لكن ينبغي أنْ نضيفَ إلى ذلك: وهو رَاضٍ بهذه العبادة، وبناءً على هذا التعريف لا تُعَدُّ الأصنامُ طواغيتَ، ولا يُعَدُّ عيسى - عليه السلام - طاغوتاً، ولا يُعَدُّ أولياءُ الله طواغيتَ كما يدَّعي البعض لأن الناس فُتِنَوا فيهم، ولا ذنب لهم في ذلك. وقوله: { وَأَنَابُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ.. } [الزمر: 17] أي: رجعوا إلى عبادته وحده لا شريك له { لَهُمُ ٱلْبُشْرَىٰ } [الزمر: 17] أي: بالجنة لأنهم وقفوا في وجه الطغيان، وردُّوا الظلم ولم يقبلوه، والله تعالى يريد من المجتمع المسلم أنْ يقف في وجه كل طاغية، وأن يُعدِّل سلوك كل منحرف، وأنْ يقاطع أهل الفساد ويعزلهم عن المجتمع وحركة الحياة فيه. ومثَّلنا لذلك بالفتوة الذي يحمل السلاح ويهدد الناس في نفوسهم وفي أرزاقهم وأعراضهم، بل ومنهم مَنْ يتحدى القانون والسلطة والنظام، إنه ما وصل إلى هذه الدرجة إلا لأن المجتمع تخلى عن دوره في الإصلاح والتصدي لأهل الشر. قبل أن أبدأ لقائي في هذه الحلقة أذكر أنه وصلني كتاب اليوم من أحد الإخوان يطلب مني أولاً أن أذكر له القصيدة التي قيلت في قنوت الليل، وأنا لا أقول مَنْ قالها، وإنما أحيله إلى رجل حجة في هذا الباب، هو الدكتور محمد عبد المنعم خفاجة عميد كلية اللغة العربية سابقاً، وحجة رابطة الأدب في مصر.

السابقالتالي
2 3 4 5 6