الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }

انتقال من الامتنان على المسلمين بما يسرّ الله من فتح قرية بني النضير بدون قتال، وما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم منهم، ووصف ما جرى من خيبتهم وخيبة أملهم في نصرة المنافقين، ومن الإِيذان بأن عاقبة أهل القرى الباقية كعاقبة أسلافهم. وكذلك موقف أنصارهم معهم، إلى الأمر بتقوى الله شكراً له على ما منح وما وعد من صادق الوعد فإن الشكر جزاء العبد عن نعمة ربه إذ لا يستطيع جزاء غير ذلك فأقبل على خطاب الذين آمنوا بالأمر بتقوى الله. ولما كان ما تضمنته السورة من تأييد الله إياهم وفَيض نعمه عليهم كان من منافع الدنيا، أعقبه بتذكيرهم بالإِعداد للآخرة بقوله { ولتنظر نفس ما قدمت لغدٍ } أي لتتأمل كل نفس فيما قدمته للآخرة. وجملة { ولتنظر نفس ما قدمت لغدٍ } ، عطف أمر على أمر آخر. وهي معترضة بين جملة { اتقوا الله } وجملة { إن الله خبير بما تعملون }. وذِكر { نفس } إظهار في مقام الإِضمار لأن مقتضى الظاهر وانظروا ما قدمتم، فعُدل عن الإِظهار لقصد العموم أي لتنظروا وتنظر كل نفس. وتنكير { نفس } يفيد العموم في سياق الأمر، أي لتنظر كل نفس، فإن الأمر والدعاء ونحوهما كالشرط تكون النكرة في سياقها مثل ما هي في سياق النفي كقوله تعالىوإن أحد من المشركين استجارك فأجره } التوبة 6 وكقول الحريري
يا أهلَ ذا المَغْنَى وُقيتم ضُرّا   
أي كل ضر. وإنما لم يعرَّف بلام التعريف تنصيصاً على العموم لئلا يتوهم نفسٌ معهودة. وأطلق «غد» على الزمن المستقبل مجازاً لتقريب الزمن المستقبل من البعيد لملازمة اقتراب الزمن لمفهوم الغَد، لأن الغد هو اليوم الموالي لليوم الذي فيه المتكلم فهو أقرب أزمنة المستقبل كما قال قرّاد بن أجدع
فإن يَكُ صدْرُ هذا اليوم ولّى فإن غداً لناظره قريب   
وهذا المجاز شائع في كلام العرب في لفظ غد وأخواته قال زهير
وأعْلَمُ عِلْم اليومِ والأمسِ قبلَه ولكنني عن علم ما في غدٍ عَمِ   
يريد باليوم الزمن الحاضر، وبالأمس الزمن الماضي، وبالغد الزمن المستقبل. وتنكير «غد» للتعظيم والتهويل، أي لغدٍ لا يعرف كنهه. واللام في قوله { لغدٍ } لام العلة، أي ما قدمتْه لأجل يوم القيامة، أي لأجل الانتفاع به. والتقديم مستعار للعمل الذي يُعمل لتحصيل فائدته في زمن آت شبه قصد الانتفاع به في المستقبل بتقديم من يَحلّ في المنزل قبل ورود السائرين إليه من جيش أو سَفر ليهيّء لهم ما يصلح أمرهم، ومنه مقدمة الجيش وتقديم الرائد قبل القافلة. قال تعالىوما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله } البقرة 110 ويقال في ضده أَخَّر، إذا ترك عمل شيء قال تعالىعلمت نفس ما قدمت وأخرت }

السابقالتالي
2