الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَىۤ أَن يَكُونَ قَدِ ٱقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ }

ترق في الإنكار والتعجيب من حالهم في إعراضهم عن النظر في حال رسولهم. إلى الإنكار والتعجيب من إعراضهم عن النظر فيما هو أوضح من ذلك وأعم، وهو ملكوت السمٰوات والأرض، وما خلق الله من شيء مما هو آيات من آيات وحدانية اللَّه تعالى التي دعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان بها. والمناسبة بين الكلامين أن دعوة الرسول إلى التوحيد وإبطال الشرك هو من أكبر بواعثهم على تكذيبهِأجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيءٌ عُجابٌ } ص 5. وعُدِّي فعل النظر إلى متعلِّقه بحرف الظرفية، لأن المراد التامل بتدبر، وهو التفكر كقوله تعالىوفي أنفسكم أفلا تبصرون } الذاريات 21 وتقول نظرت في شأني، فدل بحرف الظرفية على أن هذا التفكر عميق متغلغل في أصناف الموجودات وهي ظرفية مجازية. والملكوت المُلك العظيم، وقد مضى عند قوله تعالىوكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض } في سورة الأنعام 75. وإضافته إلى السماء والأرض بيانية أي الملك الذي هو السماوات والأرض أي مُلك الله لهما، فالمراد السماء بمجموعها والأرض بمجموعها الدالين على عظم ملك الله تعالى. وعطف { وما خلق الله من شيء } على { ملكوت } فقسّم النظر إلى نظر في عظيم مُلك الله تعالى، وإلى نظر في مخلوقاته ودقائق أحوالها الدالة على عظيم قدرة الله تعالى، فالنظر إلى عظمة السمٰوات والأرض دليل على عظم ملك الله تعالى فهو الحقيق بالإلهية دون غيره، والنظر إلى المخلوقات دليل على عظم قدرته تعالى، وأنه المنفرد بالصنع فهو الحقيق بالإلهية، فلو نظروا في ذلك نظر اعتبار لعلموا أن صانع ذلك كله ليس إلا إلٰه واحد، فلزال إنكارهم دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى إبطال الشرك. وقوله { وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم } معطوف على { وما خلق الله من شيء }. و { أنْ } هذه هي أن المفتوحه الهمزة المشددة النون خففت، فكان اسمها ضمير شأن مقدراً. وجملة { عسى أن يكون } إلخ خبر ضمير الشأن. و { أن } التي بعد عسى مصدرية هي التي تزاد بعد عسى غالباً في الاستعمال. واسمُ { يكون } ضمير شأن أيضاً محذوف، لأن ما بعد يكون غير صالح لأن يعتبر اسماً لكان، والمعنى ألم ينظروا في توقع قرب أجلهم. وصيغ الكلامُ على هذا النظم لإفادة تهويل الأمر عليهم وتخويفهم، بجعل متعلق النظر من معنى الإخبار للدلالة على أنه أمر من شأنه أن يخْطر في النفوس، وأن يتحدث به الناس، وأنه قد صار حديثاً وخبراً فكأنه أمر مسلم مقرر. وهذا موقع ضمير الشان حيثما ورد، ولذلك يسمى ضميرَ القصة اعتداداً بأن جملة خبره قد صارت شيئاً مقرراً ومما يقصه الناس ويتحدثون به. ومعنى النظر في توقع اقتراب الأجل، التخوفُ من ذلك.

السابقالتالي
2 3