الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ شَهْرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيۤ أُنْزِلَ فِيهِ ٱلْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ ٱلْهُدَىٰ وَٱلْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ ٱلشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ ٱلْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ ٱلْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } * { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ }

ولما أبهم الأمر أولاً في الأيام وجعله واجباً مخيراً على المطيق عين هنا وبت الأمر فيه بقوله تعالى: { شهر رمضان } لأن ذلك أضخم وآكد من تعيينه من أول الأمر. قال الحرالي: والشهر هو الهلال الذي شأنه أن يدور دورة من حين أن يهل إلى أن يهل ثانياً سواء كانت عدة أيامه تسعاً وعشرين أو ثلاثين، كلا العددين في صحة التسمية بالشهر واحد، فهو شائع في فردين متزايدي العدد بكمال العدة كما يأتي أحد الفردين لمسماه رمضان، يقال: هو اسم من أسماء الله سبحانه وتعالى، واشتقاقه من الرمضاء وهو اشتداد حر الحجارة من الهاجرة، كأن هذا الشهر سمي بوقوعه زمن اشتداد الحر بترتيب أن يحسب المحرم من أول فصل الشتاء أي ليكون ابتداء العام أول ابتداء خلق بإحياء الأرض بعد موتها، قال: وبذلك يقع الربيعان في الربيع الأرضي السابق حين تنزل الشمس الحوت والسماوي اللاحق حين تنزل الشمس الحمل، وقال: إنه لما وقع لسابقة هذه الأمة صوم كصوم أهل الكتاب كما وجهوا إلى القبلة أولاً بوجه أهل الكتاب تداركه الإرفاع إلى حكم الفرقان المختص بهم، فجعل صومهم القار لهم بالشهر لأنهم أهل شهور ناظرون إلى الأهلة ليسوا بالمستغرقين في حساب الشمس، فجعل صومهم لرؤية الشهر وجعل لهم الشهر يوماً واحداً فكأنهم نقلوا من صوم أيام معدودات إلى صوم يوم واحد غير معدود لوحدته، لأنهم أمة أميةوواعدنا موسى ثلاثين ليلة } [الأعراف: 142] هي ميقات أمة محمد صلى الله عليه وسلموأتممناها بعشر } [الأعراف: 142] هي ميقات موسى عليه الصلاة والسلام وأمته ومن بعده من الأمم إلى هذه الأمة - انتهى.

ولما كان هذا خطاب إرقاء مدحه سبحانه وتعالى بإنزال الذكر فيه جملة إلى بيت العزة وابتدىء من إنزاله إلى الأرض. قال الحرالي: وأظهر فيه وجه القصد في الصوم وحكمته الغيبية التي لم تجر في الكتب الأول الكتابي فقال: { الذي أنزل فيه القرآن } فأشعر أن في الصوم حسن تلق لمعناه ويسراً لتلاوته، ولذلك جمع فيه بين صوم النهار وتهجد الليل، وهو صيغة مبالغة من القرء وهو ما جمع الكتب والصحف والألواح - انتهى. وفي مدحه بإنزاله فيه مدح للقرآن به من حيث أشعر أن من أعظم المقاصد بمشروعيته تصفية الفكر لأجل فهم القرآن ليوقف على حقيقة ما أتبع هذا به من أوصافه التي قررت ما افتتحت به السورة من أنهلا ريب فيه } [البقرة: 2] وأنههدى } البقرة: 2] على وجه أعم من ذلك الأول فقال سبحانه وتعالى: { هدى للناس } قال الحرالي: فيه إشعار بأن طائفة الناس يعليهم الصوم أي بالتهيئة للتدبر والفهم وانكسار النفس إلى رتبة الذين آمنوا والمؤمنين ويرقيهم إلى رتبة المحسنين، فهو هدى يغذو فيه فقد الغذاء القلب كما يغذو وجوده الجسم ولذلك أجمع مجربة أعمال الديانة من الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه أن مفتاح الهدى إنما هو الجوع وأن المعدة والأعضاء متى أوهنت لله نور الله سبحانه وتعالى القلب وصفى النفس وقوى الجسم ليظهر من أمر الإيمان بقلب العادة جديد عادة هي لأوليائه أجل في القوة والمنة من عادته في الدنيا لعامة خلقه؛ وفي إشارته لمح لما يعان به الصائم من سد أبواب النار وفتح أبواب الجنة وتصفيد الشياطين، كل ذلك بما يضيق من مجاري الشيطان من الدم الذي ينقصه الصوم، فكان فيه مفتاح الخير كله؛ وإذا هدى الناس كان للذين آمنوا أهدى وكان نوراً لهم وللمؤمنين أنور، كذلك إلى أعلى رتب الصائمين العاكفين الذاكرين الله كثيراً الذين تماسكوا بالصوم عن كل ما سوى مجالسة الحق بذكره.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8