الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ لاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ ٱلْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }

أي بما فعلوا من القعود في التخلّف عن الغَزْوِ وجاءوا به من العذر. ثبت في الصحيحين عن أبي سعيد الخُدْرِي أن رجالاً من المنافقين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى الغزو تخلّفوا عنه وفرحوا بمَقْعدهم خِلافَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا قدم النبيّ صلى الله عليه وسلم ٱعتذروا إليه وحَلفوا، وأحبّوا أن يُحمدوا بما لم يفعلوا فنزلت { لاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ } الآية. وفي الصحيحين أيضاً أن مَرْوان قال لبوّابه: اذهب يا رافع إلى ابن عباس فقل له: لئن كان كل ٱمرىء منّا فرح بما أُوتِيَ وأحبّ أن يُحمد بما لم يفعل معذَّباً لنعذّبن أجمعون. فقال ابن عباس: ما لَكم ولهذه الآية! إنما أنزلت هذه الآية في أهل الكتاب. ثم تلا ابن عباس { وَإِذَ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَاقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ } و { لاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ }. وقال ابن عباس: سألهم النبيّ صلى الله عليه وسلم عن شيء فكتموه إياه، وأخبروه بغيره فخرجوا وقد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه واستَحمدوا بذلك إليه، وفرحوا بما أتَوْا من كتمانهم إياه، وما سألهم عنه. وقال محمد بن كعب القُرَظِي: نزلت في علماء بني إسرائيل الذين كتموا الحق، وأتوا ملوكهم من العلم ما يوافقهم في باطلهم، { وَٱشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً } أي بما أعطاهم الملوك من الدنيا فقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: { لاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ ٱلْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }. فأخبر أن لهم عذاباً أليماً بما أفسدوا من الدِّين على عباد الله. وقال الضحاك: إن اليهود كانوا يقولون للملوك إنا نجد في كتابنا أن الله يبعث نبيّاً في آخر الزمان يَخْتم به النبوّة فلما بعثه الله سألهم الملوك أهو هذا الذي تجدونه في كتابكم؟ فقال اليهود طمعاً في أموال الملوك: هو غير هذا، فأعطاهم الملوك الخزائن فقال الله تعالى: { لاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ } الملوكَ من الكذب حتى يأخذوا عَرَض الدنيا. والحديث الأوّل خلاف مقتضى الحديث الثاني. ويحتمل أن يكون نزولها على السببين لاجتماعهما في زمن واحد، فكانت جواباً للفريقين، والله أعلم. وقوله: واستحمدوا بذلك إليه، أي طلبوا أن يحمدوا. وقول مَرْوان: لئن كان كلّ ٱمرىء منا الخ دليلٌ على أن العموم صِيَغاً مخصوصة. وأن «الذين» منها. وهذا مقطوع به من تفهّم ذلك من القرآن والسُّنّة. وقوله تعالى: { وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ } إذا كانت الآية في أهل الكتاب لا في المنافقين المتخلّفين لأنهم كانوا يقولون: نحن على دين إبراهيم ولم يكونوا على دينه، وكانوا يقولون: نحن أهل الصلاة والصوم والكتاب يريدون أن يُحمَدوا بذلك.

السابقالتالي
2