الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ لاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ ٱلْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }

قوله تعالى: { لاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَفْرَحُونَ }: قرأ ابن كثير وأبو عمرو: " لاتَحْسَبَنَّ ـ فلا يَحْسَبُنَّهم " بالياءِ فيهما ورفع باء " يَحْسَبُنَّهم ". وقرأ الكوفيون بتاء الخطاب وفتحِ الباء فيهما معاً، ونافع وابن عامر بياءِ الغَيْبة في الأولِ، وبالخطاب في الثاني، وفتح الباءِ فيهما. وقرىء شاذاً بتاءِ الخطابِ وضَمِّ الباء فيهما معاً. [وقُرىء فيه أيضاً بياء الغيبة فيهما وفتح الباء فيهما أيضاً، فهذه خمس قراءات].

فأمَّا قراءةُ ابن كثير وأبي عمرو ففيها خمسة أوجه، وذلك أنه لا يخلو: إمَّا أَنْ يُجْعَلَ الفعلُ الأولُ مسنداً إلى ضميرِ غائبٍ أو إلى الموصولِ، فإنْ جَعَلْناه مسنداً إلى ضميرِ غائب: إمَّا الرسولِ عليه السلام أو غيرِه ففي المسألة وجهان، أحدُهما: أنَّ/ " الذين " مفعولٌ أولُ، والثاني محذوفٌ لدلالةِ المفعولِ الثاني للفعلِ الذي بعده عليه وهو " بمفازة " ، والتقدير: لا يَحْسَبَنَّ الرسول أو حاسبٌ الذين يفرحون بمفازة، فلا يَحْسَبُنَّهم بمفازة، فأسند الفعلَ الثاني لضميرِ " الذين " ، ومفعولاه: الضميرُ المنصوبُ و " بمفازةٍ ".

الوجه الثاني: أنَّ " الذين " مفعولٌ أولُ أيضاً، ومفعولهُ الثاني هو " بمفازة " الملفوظِ به بعد الفعل الثاني، ومفعول الفعل الثاني محذوفٌ لدلالةِ مفعولِ الأولِ عليه، والتقديرُ: لا يَحْسَبَنَّ الرسول الذين يفرحون بمفازةٍ فلا يَحْسَبُنَّهم كذلك، والعمل كما تقدم. وهذا بعيدٌ جداً للفصل بين المفعول الثاني للفعل الأول بكلامٍ طويل من غير حاجةٍ. والفاءُ على هذين الوجهين عاطفةٌ، والسببية فيها ظاهرة.

وإن جعلناه مسنداً إلى الموصولِ ففيه ثلاثة أوجه، أولها: أَنَّ الفعل الأول حُذِف مفعولاه اختصاراً لدلالة مفعولي الفعل الثاني عليهما تقديره: لا يَحْسَبَنَّ الفارحون أنفسَهم فائزين فلا يَحْسَبُنَّهم فائزين كقول الآخر:
1508ـ بأيَّ كتابٍ أم بأيةِ سُنَّةٍ     ترى حُبَّهم عاراً علي وتَحْسَبُ
أي: وتَحْسَبُ حُبَّهم عاراً، فحَذَف مفعولي الفعل الثاني لدلالة مفعولي الأول عليهما، وهو عكسُ الآية الكريمة حيث حُذِف فيها من الفعل الأول.

الوجه الثاني: أنَّ الفعلَ الأول لم يَحْتَجْ إلى مفعولين هنا. قال أبو علي: " يَحْسَبَنَّ " لم يقع على شيء، و " الذين " رفع به، وقد تجيء هذه الأفعالُ لغواً في حكم الجمل المفيدة كقوله:
1509ـ وما خِلْتُ أَبْقَى بيننا من مودةٍ     عِراضُ المَذَاكي المُسْنِفِاتِ القلائِصا
وقال الخليل: " العربُ تقول: ما رأيتُ يقول ذلك إلا زيدٌ، وما ظننته يقول ذلك إلا عمرو " يعني أبو علي: أنها في هذه الأماكنِ ملغاة لا مفعولَ لها.

الثالث: أن يكونَ المفعولُ الأول محذوفاً. الثاني هو نفس " بمفازة " ويكون " فلا يَحْسَبُنَّهم " تأكيداً للفعل الأول. وهذا رأي الزمخشري، فإنه قال بعد ما حكى هذه القراءة: " على أنَّ الفعلَ اللذين يفرحون، والمفعولُ الأولُ محذوفٌ على معنى: " لا يَحْسَبَنَّهم الذين يفرحون بمفازةٍ " بمعنى: لا يَحْسَبَنَّ أنفسَهم الذين يفرحون فائزين، و " فلا يَحْسَبُنَّهم " تأكيد انتهى.

السابقالتالي
2 3