الرئيسية - التفاسير


* تفسير الوسيط في تفسير القرآن الكريم/ طنطاوي (ت 1431 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَلاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِٱلْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى ٱلْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ ٱلنَّاسِ بِٱلإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ }

الخطاب فى الآية الكريمة موجه إلى المؤمنين كافة فى كل زمان ومكان. والمراد بالأكل مطلق الأخذ بغير وجه حق، وعبر عنه بالأكل، لأن الأكل أهم وسائل الحياة، وفيه تصرف الأموال غالباً. والباطل فى اللغة الزائل الذاهب، يقال بطل يبطل بطولا وبطلانا. أى ذهب ضياعاً وخسراً. وجمع الباطل أباطيل. ويقال بطل الأجير يبطل بطالة إذا تعطل واتبع اللهو. والمراد هنا كل ما لم يبح الشرع فأخذه من المال وإن طابت به النفس، كالربا والميسر وثمن الخمر، والرشوة، وشهاد الزور، والسرقة، والغصب، ونحو ذلك مما حرمه الله - تعالى -. والباء للسببية، والجار والمجرور متعلق بالفعل قبله، وكذلك قوله { بَيْنَكُمْ }. والمعنى لا يأخذ بعضكم مال بعض، ويستولى عليه بغير حق، متذرعاً بالأسباب الباطلة، والحيل الزائفة، وما إلى ذلك من وجوه التعدى والظلم. وفى قوله - تعالى - { أَمْوَالَكُمْ } - مع أن أكل المال يتناول مال الإِنسان ومال غيره - فى هذا القول إشعار بوحدة الأمة وتكافلها، وتنبيه إلى أن احترام مال غيرك وحفظه هو عين الاحترام والحفظ لما لك أنت، ففى هذه الإِضافة البليغة تعليل للنهى، وبيان لحكمة الحكم، إذا استحلال الإِنسان لمال غيره يجرئ هذا الغير على استحلال مال ذلك الإِنسان المتعدى، وإذا فشا هذا السلوك فى أمة من الأمم أدى بها إلى الضعف والتعادى والتباغض. فما أحكم هذا التعبير، وما أجمل هذا التصوير. وقوله { وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى ٱلْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ ٱلنَّاسِ بِٱلإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } بيان لصورة أخرى قبيحة من صور أكل أموال الناس بالباطل وقوله { وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى ٱلْحُكَّامِ } معطوف على { وَلاَ تَأْكُلُوۤاْ }. والإِدلاء فى الأصل إرسال الدلو فى البئر للاستقاء. ثم جعل كل إلقاء قول أو فعل إدلاء ومنه أدلى فلان بحجته، أى أرسلها ليصل إلى مراده. والمراد بالإِدلاء هنا الدفع والإِلقاء بالأموال إلى الغير من أجل الوصول إلى أمر معين. والحكام جمع حاكم، وهو الذى يتصدى للفصل بين الناس فى خصوماتهم وقضاياهم. والفريق القطعة المعزولة من جملة الشىء، ومنه قيل للقطعة من الغنم تشذ عن معظمها فريق. والإِثم الفعل الذى يستحق صاحبه الذم والعقاب. وجمعه آثام. والمعنى لا يأخذ بعضكم أموال بعض - أيها المسلمون - ولا يستولى عليها بغير حق، ولا تدلوا بها الحكام، أى ولا تلقوا أمرها والتحاكم فيها إلى القضاة لا من أجل الوصول إلى الحق، وإنما من أجل أن تأخذوا عن طريق التحاكم قطعة من أموال غيركم متلبسين بالإِثم الذى يؤدى إلى عقابكم، حال كونكم تعلمون أنكم على باطل، ولا شك أن إتيان الباطل مع العلم بأنه باطل أدعى إلى التوبيخ من إتيانه على جهالة به.

السابقالتالي
2