الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ لاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ ٱلْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }

والحسبان للأمر أن يظنه السامع دون حقيقته، والأمور التي يظنها السامع تسير أولاً على ضوء الشيء الواضح دون التدبر لما وراء واجهات الأشياء، فالذين يفرحون بنا أتوا نوعان: نوع يفرح بما أتاه مناهضاً لدعوة الحق كالمنافقين الذين فرحوا بأنهم غشوا المؤمنين، وتظاهروا بالإيمان فعاملهم المؤمنون بحق الأخوة الإيمانية، حدث هذا قبل أن يكشف الحق هؤلاء المنافقين للرسول صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين من بعد ذلك. ونوع آخر يفرح لما آتاه وجاء به مناصراً لدعوة الحق فالفرح الأول - وهو فرح المنافقين - ممنوع، والفرح الثاني مشروع. ولذلك يقول الحق:قُلْ بِفَضْلِ ٱللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ.. } [يونس: 58]. إذن فلم ينه الله عن مطلق الفرح ولكن ليفرحوا بفضل الله. إنه سبحانه قد نهى عن نوع من الفرح في مسألة قارون:إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْفَرِحِينَ } [القصص: 76]. وهكذا نجد آيات تنهى عن الفرح وآيات تثبت للمؤمنين الفرح، وتأمرهم به. إذن فالفرح في ذاته ليس ممقوتاً، ولكن الممقوت بعض دواعي ذلك الفرح، فدواعيه عند المؤمن أن يفرح بنصر الله، وأن يفرح بإعلاء كلمة الحق، وهذه دواع مشروعة. ودواعيه الممنوعة أن يفرح بأن يقف أمام مبدأ من مبادئ الله ليدحض ذلك المبدأ وهذا ما يفرح به الكافر ولكن الفرح الحقيقي هو الفرح الذي لا يعقبه ندم، ففرح المؤمن موصول إلى أن تقوم الساعة، وموصول بعد أن تقوم الساعة. ولكن فرح الكافر والمنافق وأهل الكتاب الذين يصورون الله على غير حقيقته فرح موقوت وممقوت، إذن فذلك لا يعتبر فرحاً لأن الندم بعد الفرح يعطى عاقبة شر لأن النادم يتحسر دائماً على فعله فهو في غم وحزن. فالحق سبحانه وتعالى يريد أن يعطي للمؤمن مناعة، إنكم أيها المؤمنون تواجهون معسكرات تعاديكم. هذه المعسكرات ستفرح بما أتته ضدكم فيجب ألا يفتّ ذلك في عضدكم، ولا تحسبنهم إن فعلوا ذلك بمنجاة من العذاب، وما دام فرحهم سيؤدي بهم إلى العذاب فهو فرح أحمق. وماذا صنع الذين جاء فيهم القول: { لاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ } [آل عمران: 188] يحتمل أن يكون المراد هم أهل الكتاب الذين كتموا نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن الآية السابقة تقول:وَإِذْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَاقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ } [آل عمران: 187] ماذا فعل هؤلاء إذن؟ لقد كتموا أوصاف رسول الله ونعته الموجود في كتبهم وفرحوا بما كتموا، وبعد ذلك أحبوا أن يحمدوا بما فعلوا من الذين على طريقتهم في الكفر والضلال. إن الإنسان قد يأتي الذنب ولكنّه يندم بعد أن يفعله، ولكنه حين يسترسل فيفرح بما فعل فذلك ذنب آخر، وهكذا صار إتيان العمل ذنباً، والفرح به ذنباً آخر لأنه لو ندم على ما فعله لكان الندم دليلاً على التوبة، أما أن يأتي العمل وبعد ذلك يفرح به ثم يأتي بعد ذلك الأشد فيجب أن يُحمد بما لم يفعل، فذلك من تمام الحمق، إنه جرم وذنب مركب من فعل آثم، ففرح به، فحب لحمد على شيء لم يفعله.

السابقالتالي
2 3 4 5